من ثورات الربيع العربي تبدأ إنعام كجه جي روايتها «النبيذة» لتعود ببطلتها الاستثنائية تاجي عبدالحميد (تاج الملوك) إلى أيام الثورات العربية القديمة والانقلابات والأحداث الكبرى التي عصفت بالأمة العربية، منذ عهد الملكية حتى الجمهورية وما بينهما من مظاهرات وحروب وحركات تمرد في أرجاء الوطن العربي كله، من العراق شرقًا إلى مصر والجزائر غربًا.

نعود مع بطلة الرواية العجوز تاجي عبدالحميد التي كانت شاهدة على الكثير من الأحداث التاريخية الفارقة، بالمصادفة حينًا وبالمشاركة أحيانًا، لتقلب في تاريخ العراق منذ عهد الاحتلال الإنجليزي وما دار في أيامه من معاهدات بين المحتل والملك، وكيف ثار الناس عليه وانقلبوا، وكيف تحولت حياتها بناءً على تلك الثورات والتغيرات السياسية الكبرى.

لكن «النبيذة» لا تروي حكاية «تاج الملوك» وحدها. هي شخصية ثريّة مرسومة بدقة، وبأبعاد وخلفيات استثنائية، كيف لا وقد كانت الصحفية الأولى التي تلفت إليها الأنظار في البلاد، والتي ساعدتها الظروف لتشارك في أكثر من مناسبة لعدد من زعماء العرب والعالم. ولكن ثمة حكاية أخرى لنبيذةِ أخرى أسرتها العراق وغيّرت شكل حياتها، هي بطلة الرواية الشابة، الصورة النقيض لنجاح وسيطرة وقوة ونفوذ تاج الملوك، إنها الشابة المغلوبة على أمرها «وديان الملاح» التي قادتها الصدفة لأن تكون رفيقة تلك المرأة القوية، ومستودع حكاياتها وأسرارها، بل وتكون هي التي تذلل لحظة لقائها بحبيبها الذي طال انتظاره.

لم أكن أحب أن تناديني «صغيرتي». تقولها بالفرنسية «ما بوتيت» فأنفر من الكلمة اللطيفة، ما عدت أتقبّل أي بادرة حنان. لست صغيرتها ولا صغيرة أي أحد. فرحت بالتعرف عليها لأنها عراقية مثلي، شرط حفظ المسافة، أكره الاقتراب الزائد من أي إنسان بحيث يصبح صعبًا فراقه، حتى الحب نفرت منه، أتذكر أيامه وأشتاق إليه وأسوّر نفسي بالأسلاك الشائكة. روحي ما زالت تحت الترميم. لن تتحمّل خذلانًا آخر. وتاجي تهرق مشاعرها علي وأنا أحتمي من مطرها الحار بقوقعتي. أتمرد على سعيها لأن تتبناني ولو معنويًا. يكفيني أن لي والدة في بغداد لا أرها ولا تراني. لم تنبذني أمي مثلما تخلى عني إخوتي، لكنني لم أغفر لها سكوتها، وقلة حيلتها.

بين هاتين السيدتين (العجوزة والشابة) وما بينهما من فروق، وما في جعبة كل واحدةٍ منهما من آلام ومشكلات وحكايات، يظهر منصور البادي، الصحفي الفلسطيني الذي يحمل همًا آخر، وحكاياتٍ أخرى، ويحمل مع كل ذلك مأساة بلاده، التي تبدو كجرحٍ مفتوح غير قابلٍ للاندمال، ويحكي حكايته وحكاية أسرته من الاحتلال للتفرق والشتات، وكيف سعى بكل ما أوتي من ثقافة ولسان وقوة لأن يعرَّف العالم بعدالة قضيته وقضية وطنه.

يلتقي منصور وتاج عبدالحميد مصادفةٍ وكأن القدر اختار لهما أيضًا أرضًا محايدة غير عربية «إذاعة كراتشي» ليسكنا إلى بعضهما لفترة وجيزة، وتنشأ بينهما قصة حبٍ لم تكتمل، وتفرق بينهما الأقدار والمسافات مرة أخرى ولكن يذكي الشوق نيرانها، ويستعديان التواصل، ولا يجدان إلا الشابة محطمة القلب وديان الملاح مرسالاً للغرام.

رجل وامرأتان، وحكايات متداخلة متشابكة من الصراعات والحروب إلى المظاهرات والثورات. شعوبٌ تنتفض ورؤساء يتغيرون، اعتقالات ومحاكمات ومحاولات لفرض السيطرة وقمع الشعوب، دنيا تتغيّر، وبينها شخصيات الرواية تراقب وتشارك وتسعى لأن يكون لها موقعها الذي تحمي نفسها فيه من كل ذلك. وتمر الأيام ليجدوا أنفسهم في النهاية وقد دارت الدنيا بهم ولم يصلوا إلى ماحلموا به طويلاً.

اقرأ أيضًا: القائمة القصيرة لبوكر 2019 ..محاولات البحث عن الهوية

قسّمت إنعام كجه جي روايتها إلى فقراتٍ قصيرة متصلة، وتركت الفرصة لأبطالها ليعبروا عن أنفسهم، ويحكوا حكايتهم، ليتفاعل معها القارئ. وعبر تقنية «تيار الوعي» تأتي الأحداث والأفكار وتتلاحق، ويتداخل الزمان والمكان، ولا يفقد القارئ البوصلة والاتجاه من شخصيةٍ لأخرى.

ولعل أحد أوجه براعة الكاتبة أنها لم تعنون تلك الفصول القصيرة بغير الأرقام، وتركت القارئ يستنتج ببساطة أي بطلٍ من أبطال الحكاية يتحدث، وكيف كانت هناك درجة ولو بسيطة من الاختلاف في اللغة وطريقة السرد يميّز بها القارئ بين تلك الحكايات. وكيف انتقلت الحكاية من استخدام ضمير المخاطب، إلى المتكلم، إلى الحكي بصيغة الماضي عن الشخصيات، وكيف كان ذلك الانتقال سلسًا ومناسبًا لكل فقرة وكل مرحلة من مراحل السرد، وكاشفًا عن نفسية الشخصية بالطريقة المناسبة.

كنت معها مثل كوكبين متحررين من جاذبية الأرض، لنا أن نرسم شكل العلاقة التي نريد. لا أحد يدخل على الخط لكي يعلق أو يتفلسف، الرأي رأيها، الصحافية الجريئة المجربة، وأنا الأديب الناشئ الذي يتابع ويتعلّم. تطوّرت صداقتنا كسمفونية ذات حركاتٍ متتابعة ومتصاعدة، ثم عرفت أن حكاية ارتياد فضاء الحرية والإفلات من الجاذبية كانت محض أوهام. ومثل غربانٍ خفية تتحيّن لحظة الانقضاض، تدخلت المفاهيم المتوارثة لتطيح حلمي الجميل. كنت أعمى حينما لم ألحظ نظرات الآخرين لنا، لم أحس أن سفور زميلتنا العراقية يستفز رئيس الإذاعة، وأن تباسطها معي وصدها له يوغران صدره. ذهب واشتكاها عند جماعته.. أصدروا الحكم بإبعاد الإعصار التاجي عن أراضيهم

هكذا استطاعت إنعام كجه جي أن تجمع في روايتها بين الهم العربي العام وهموم أبطالها الخاصة، وأن تجعل الاثنين متداخلين مترابطين بطريقة ذكية، ومن خلال لعبة سردية تتشكّل كقطع البازل قطعةً قطعة، ويسير القارئ فيها مدفوعًا بالحكايات التاريخية التي ربما يكون قد سمع عن بعضٍ منها، والشخصيات والزعماء السياسيين المعروفين مثل أحمد بن بلا، ونوري السعيد وغيرهما، وبين الثورات والأحداث السياسية التي تبدأ منذ العصر الملكي وتنتهي عند ثورات الربيع العربي التي تسمع صيحاتها وهتافاتها بطلة الرواية وهي ترقد مريضة في المستشفى بباريس.

إنعام كجه جي روائية عراقية عملت في الصحافة والإذاعة بالعراق تقيم في باريس، وصلت رواياتها إلى قوائم البوكر القصيرة أكثر من مرة، بدءًا من «الحفيدة الأمريكية» عام 2009، ورواية «طشاري» عام 2014، كما وصلت روايتها «النبيذة» إلى القائمة الطويلة في جائزة الشيخ زايد للكتاب، وهي على القائمة القصيرة للبوكر هذا العام.