في كتابه المهم «الرواية وتأويل التاريخ» يشير الناقد الفلسطيني فيصل دراج إلى دور الرواية في رصد وتوثيق الأحداث التاريخية المهمة، بل وقدرتها على استعادة وإحياء تلك الأحداث وصبغها بشكلٍ يبدو واقعيًا ومؤثرًا، وكيف أن استدعاء التاريخ لم يقتصر لدى الروائيين العرب على كونه وسيلة من وسائل السرد الروائي، بل انتقل ليكون هدفًا وغاية في حد ذاتها ذلك أن:

الروائي يستغرق المؤرخ ويتجاوزه، فالحدث الذي يصلبه المؤرخ على جدران الزمن وحيد تحرره الشخصيات الروائية وتضعه في أزمنةٍ متعددة، فالروائي يذهب إلى وثائق المؤرخ المتعددة ويخلقها شخصياتِ متحاورة، تنقض أحادية القول التاريخي بأقوال متعددة مراجعها التأمل والاحتمال، فعلم التاريخ يحدث غالبًا عما كان، في حين تتناول الرواية ما كان يجب أن يكون، محررة الماضي من قيود القراءة الوحيدة، وعاطفةً مبادئ الأخلاق على المعارف الواضحة والغائمة.

مرة أخرى يُطل علينا التاريخ من بين صفحات الرواية، ويبدو أساسًا يعتمد عليه الروائي لصياغة روايته وبناء عالمه، ويسعى من خلاله إلى إلقاء الضوء على عدد من المواقف والأحداث المهمة التي ربما يكون قد طواها النسيان، ولا شك أن لها أثراً بالغاً في أيامنا هذه.

خمسة أبطال

من الجزائر، وقبيل الاستعمار الفرنسي، تحديدًا من عام 1815 وحتى 1833 ينطلق الروائي عبد الوهاب عيساوي ليقدم لنا روايته الجديدة «الديوان الإسبرطي» التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة بوكر العربية هذا العام، ومن خلال تقسيم روايته بين خمسة أبطال مختلفين، يعرض تلك اللحظات الفارقة التي مهدت لدخول الفرنسيين لاحتلال الجزائر، وما سبق ذلك من أثر العثمانيين عليهم وما كانوا يفعلونه هناك.

مرة أخرى يأتي الحديث في رواية من روايات مرشحة لجائزة البوكر عن «العثمانيين» ودورهم وما فعلوه في الدول العربية، فقد سبق أن قدّم طرفًا من هذه الصورة الروائي السعودي مقبول العلوي في روايته «سفر برلك» التي وصلت للقائمة الطويلة، ولكنها لم تصمد كثيرًا، وفيها إطلالة سريعة لما تعرّض له سكان الجزيرة العربية من قهرٍ وإذلال في أيام حكم العثمانيين.

اقرأ: رواية «سفر برلك» صفحة سوداء من قهر العثمانيين

ولكن الأمر يختلف هنا، فلم يقتصر على عرض تصوير ما عاناه الشعب الجزائري من الاحتلال العثماني، ولكن انتقل إلى تصوير أثر دخول الفرنسيين أيضًا، وكيف كان التعامل معهم والمقارنة بينهم وبين المحتل السابق، ولا يورّط الكاتب نفسه في عرض وجهات النظر المختلفة والمتعارضة، ولكن يوكل هذه المهمة بكل اقتدار وبراعة لشخصيات روايته، التي اعتمد فيها على تقنية تعدد الأصوات»، وإن كان يبقى دوره الكبير والأهم في اختيار هذه الشخصيات التي أراد لها تمثيل كل طبقة أو فئة من فئات المجتمع، فيهم اثنان فرنسيان هما: الصحفي والمراسل الفرنسي «ديبون» و«كافيار» أحد جنود حملة نابليون، والجزائريون الذين يمثلهم كاتب الديوان «ابن ميار » الذي يراوح مكانه بين الفرنسيين والعثمانيين، وبين المواطنين البسطاء الذين يمثلهم «حمة السلاوي» الذي يشترك في المقاومة ضد المستعمر، و«دوجة» الفتاة الجزائرية ضحية الفقر والتشرد.

بين الرضوخ للمحتل ومقاومة المستعمر

منذ وعيت رأيتهم يملؤون المحروسة، كانوا مختلفين عنا، ينبهني التجار أنهم مسلمون مثلنا، ولم يبدُ لي أن الأمر متعلق بالدين بل بعرقهم، بسهولةٍ تكتشف طبع هؤلاء الأتراك، كبرياؤهم لا حدود لها، ميالون إلى إهانة الناس، كانت بيوتهم أجمل من بيوتنا، ومزارعهم أوسع من مزارعنا، ومفتيهم له الكلمة الأخيرة عند الباشا الكبير، بالرغم من أننا أكثر عددًا. تجاوزت السهل بمسافة حتى بلغت وادي الحراش، وخمنت أني سأراهم، لكنني لم أعثر إلا على قبورهم، جلست عند أولها، وشرعت أنقل بصري بين البقيّة. عام مر وما زلت أسمع صراخهم في رأسي، الأطفال يتراءون لي ويقفزون بين القبور، والشيوخ يفترشون الأرض يراقبونهم.
الديوان الإسبرطي _ عبد الوهاب عيساوي

استطاع عبد الوهاب عيساوي أن ينقل الصورة كاملةً، ولم ينتقل في أحداث الرواية أبعد من تلك الأيام التي رصدها، قبيل الاستعمار الفرنسي. وفي الوقت نفسه كان التركيز على شخصيات غير تاريخية وغير معروفة، أكسبها هو من خلال وصفه والتعريف بهم صفاتهم وطريقة كلامهم، وجعلهم يعبرون عن منطقهم الخاص وحياتهم، وطريقة تعاملهم وأفكارهم تجاه المحتل العثماني والمستعمر الفرنسي بعد ذلك، وترك للقارئ في النهاية تشكيل الصورة النهائية.

التاريخ على حساب الرواية

 ربما يؤخذ على الرواية في النهاية توغلها في السرد التاريخي، بطريقةٍ أفقدت الرواية حيويتها، فعلى الرغم من بناء الشخصيات المحكم فإن حكاية كل شخصية للأحداث التاريخية التي تدور حولهم استغرق الكثير من الرواية، وعمل على إبطاء السرد بشكلٍ كبير، بالإضافة إلى استخدام الكاتب لعدد من المصطلحات العسكرية المستخدمة في أيام العثمانيين والتي قد تكون مجهولة لشريحة كبيرةٍ من القراء مثل «الكراغلة» و«اليولداش» و«الجولق» وغيرها من ألفاظ يصعب فهمها دون أن يتم توضيح معانيهم في هامشِ مستقل، وهو ما نرى أنه كان ضروريًا حتى لا يقطع على القارئ تركيزه في أحداث الرواية وتفاصيلها، لا سيما أن تلك المسميات يأتي ذكرها أكثر من مرة.

في النهاية استطاع عيساوي أن يقدّم رواية تاريخية محكمة البناء، لا تعتمد على عرض سيرة ذاتية لأحد أبطال المقاومة الجزائرية مثلاً – كما جرى العرف بين كتاب الروايات التاريخية- ولا استعراض عدد من المعارك الشهيرة، وإنما توغّل في المجتمع الفرنسي والجزائري والتركي، ليرسم لنا صورة بانورامية لتلك المرحلة التاريخية المهمة في تاريخ بلاده الجزائر المحروسة.

عبد الوهاب عيساوي روائي جزائري شاب من مواليد 1985، حصل على جائزة الشارقة في الإبداع عن مجموعته القصصية «حقول الصفصاف» عام 2013، كما حصل على جائزة آسيا جبار في الرواية عن روايته «سييرا دي مويرتي» 2015 وهي رواية تاريخية أيضًا يعرض فيها طرفًا من محنة الإسبان الجمهوريين بعد هزيمة فرانكو وما تعرضوا له في جبل الموت. كما حصل على جائزة سعاد الصباح عن روايته «الدوائر والأبواب» عام 2017.

روايته «الديوان الإسبرطي» وصلت للقائمة القصيرة في جائزة بوكر العربية لهذا العام 2020. وهي الرواية الجزائرية الثانية في القائمة لأول مرة، ومعها رواية حطب سراييفو لسعيد خطيبي مع أربع رواياتٍ أخرى من المنتظر أن يعلن عن الرواية الفائزة في أبريل المقبل.