هل تعرف «فرويد»؟ الطبيب النفسي النمساوي الملتحي صاحب مدرسة التحليل النفسي والذي بالطبع لن تكفي مقدمة مقال للحديث عنه؟.

حسناً إذا لم تكن تعرفه بإمكانك أن تبحث عنه على جوجل، أما الآن فنحن بصدد الحديث عن نظريته عن مكونات الشخصية، يقول فرويد إن الشخصية تتكون من ثلاثة مكونات هم «الهو أو الId»، و«الأنا أو الEgo»، و«الأنا الأعلى أو الSuperego». «الهو – Id» يمثل الجزء الجامح في الشخصية، الجزء الشهواني الشيطاني ذو الأفكار المتحررة الذي يرغب في كل وأي شيء، ولا يعترف بأي ضوابط أخلاقية أو دينية أو اجتماعية.

«الأنا الأعلى – Superego» هو الضمير، الجزء المسئول عن ضبط التصرفات والتفكير بعقلانية ووضع الأخلاقيات والمبادئ والقيم في الحسبان، هو الفارس الذي يلجم الفرس الجامح المتمثل في الهو والذي بإمكانه أن ينطلق دون أي تريث للأبد، أما «الأنا – Ego» فهي الشخصية النهائية التي تتصرف مع العالم في، هي الصورة الواقعية التي تنتج من تعامل الأنا الأعلى مع الهو.

حسناً، ما علاقة هذا الكلام بعنوان المقال والذي بالضرورة يشير إلى رواية «إليف شفق» الجديدة «بنات حواء الثلاث»، والتي ترجمت أخيرًا للعربية بعد حوالي عام ونصف من صدورها؟ هذا ما سوف نكتشفه لاحقًا، فاتبعني.


بيري.. شيرين.. ومنى

الرواية تدور حول سيدة تدعى «نازبيري»، تركية مسلمة تعيش في إسطنبول، تدور الرواية في يوم واحد من أيامها وتسترجع فيها طفولتها وحياتها في بيت أسرتها، ثم ماضيًا عاشته في جامعة «أوكسفورد» مع صديقتيها «شيرين»، و«منى» المسلمتين أيضًا، ولكنهما طرفا النقيض الذي تقف في منتصفه تمامًا «نازبيري» التي تدعى دائمًا «بيري».

«بيري» هي الشخصية الرئيسية في الرواية، تحكي كيف نشأت في أسرة مفككة بسبب الخلافات العقائدية بين أمها المتدينة تمامًا، وأبيها اليساري الذي يعارض كل أفكار الأم، وهي بينهما مشتتة لا تعرف أي الفريقين تختار، فبقيت في المنطقة الرمادية البين بين، فتصوم أيامًا معينة من رمضان في حين أنها لا تمانع في إقامة علاقات جنسية مع شاب لمدة ليلة واحدة لقتل الفراغ، وتشرب النبيذ ولكنها ترفض أكل لحم الخنزير وهكذا.

تكبر «بيري» وتسافر إنجلترا من أجل الدراسة، فتلتقي هناك «شيرين» المسلمة المتحررة ذات الأصل الإيراني والتي تعيش كل ما تريد أن تعيشه بجرأة وحرية لا تعترف سوى برغبتها في فعل الشيء من عدمه، والتي تحتقر كل مظاهر التمسك بالدين والمتدينين، و«منى» المسلمة الملتزمة المحجبة ذات الأصل المصري التي تعزو كل شيء للإرادة الإلهية وهدفها الوحيد هو أن يعم الخير والسلام وأن ترى البشر متحابين في الله متمسكين بقيمه وتعاليمه وبالدين القويم.


أدب.. فلسفة.. ومجتمع

تناقش الرواية كيفية الوصول للرب، وتتضمن حوارات فلسفية بالغة العمق عن الإيمان والإلحاد والبون الشاسع بينهما، وكالعادة لا تقتصر «إليف شفق» في حواراتها على الفلسفة وحدها، فهي تناقش المجتمع التركي وتقاليده وأعرافه كما تفعل دومًا.

فهي وإن تكتب في مواضيع شديدة التعمق في الوجودية وأزمات الإنسان المعاصر بشكل عام والمرأة بشكل خاص، فإنها تناقش هذا من منظور مجتمعها التركي بشكل أكثر تحديدًا وخصوصية، فكل رواية من رواياتها ذائعة الصيت تأخذ على عاتقها مناقشة موضوع حرج في المجتمع التركي، كروايتها «لقيطة إسطنبول»، أو روايتها «شرف» بجزئيها.

اقرأ أيضًا:حليب «إليف شافاق» الأسود

تدور الرواية في خطين دراميين؛ «بيري» الحاضر، و«بيري» الماضي، الخط الذي يحكي تاريخ بيري مفعم بالأحداث رغم تضمنه لحوارات عقلية كثيرة تحتاج سعة بال وعقلاً متفتحًا ليتقبلها، تبدأ النقاشات منذ طفولتها وتدور كلها حول الدين والمعتقدات وإعمال العقل، ثم تتطور النقاشات مع تصاعد الأحداث لتكون أكثر زخمًا وصعوبة عندما تلتحق بيري بالجامعة وتنقل لنا مناقشاتها مع الأستاذ «آزور»، فتمشي الأحداث جنبًا إلى جنب مع الفلسفة العميقة التي تحتاج أكثر من القدرة على القراءة للحاق بها، أنت تحتاج شغفًا حقيقيًا بالفلسفة وحقيقة الوجود حتى يستوعب عقلك ما تتحدث به الشخصيات.

ثم الخط الدرامي الثاني الذي يحكي «بيري» الحاضر والذي لا يحدث فيه أي شيء تقريبًا سوى نقاشات اجتماعية تخص الواقع التركي وأزمات الحياة الجديدة ومتطلبات العصر، هنا يتجلى اهتمام «شفق» ليس بالفلسفة ولا بالأدب فقط، بل بالواقع التركي المعاصر الذي ترى أنها مسئولة بشكل ما عن المساهمة في جعله أفضل.


ثم يأتي فرويد ليبقى

حسنًا، ما دور «فرويد» الذي بدأنا به الحوار في كل هذا؟ إن نظرية مكونات الشخصية الثلاث تتجلى في رواية «شفق» الجديدة، فيمكننا أن نطلق على «بيري» «الأنا» لأنها الشخصية المحورية التي تتصرف والتي يدور عنها كل شيء، أما «منى» فهي «الأنا الأعلى» وبجدارة حيث إنها تلعب دور الضمير اليقظ الذي يحاول أن يفتح عيني بيري على الأخلاق والقيم، والتي تتصارع دومًا مع «شيرين» الشهوانية المنطلقة التي لا يكبح جماحها شيء، والتي تستطيع الحصول على كل ما تريده.

في المشاهد التي تجمع الثلاثة يخيل لك أن «منى» و«شيرين» أجزاء من عقل «بيري» المتصارع منذ طفولتها وليسوا فتيات منفصلات عنها، فهي تحمل داخلها جزءًا من كل منهن في حين أن كلاً من الفتاتين مكتفيتان بنفسيهما وبأفكارهما تمامًا وغير قابلتين للتأثير فيهما، حتى عندما يدور الحوار على لسان كل من «منى» و«شيرين» تجد كليشيهية شديدة في التعبير عن الأفكار.

الكليشيهية ليس المقصود بها المؤلفة ولكن الشخصية نفسها، فـ«منى» لا تخطئ وتفعل الخير وتتمسك بتعاليم الدين دومًا، و«شيرين» لا يمكن أن يردعها شيء، و«بيري» الحائرة بينهما التي تستمع لكل منهن لوهلة وتخرج بتصرف محايد لا يميل لأي الكفتين، فيخيل لك أن تلك الكليشيهية متعمدة من «شفق»، وربما ترى «فرويد» بعين الخيال يبتسم لتحقق نظريته.

الرواية مزيج من الأدب والفلسفة وعلم النفس والمجتمع، وجبة دسمة تأتيك في ستمائة صفحة تستحق عنايتك الشديدة وأنت تقرأها لأنها حتمًا لا تصلح للتسلية، فهي – كعادة إليف شفق – تفتح أبوابًا كنت تحسبك متيقنًا من وجود مفاتيحها في جيبك فتكتشف أنك ربما أضعتها في وقت ما في ركضك المتسارع وراء الحياة الصاخبة.