بعد عقودٍ طويلة من الانكفاء على الذات والجلوس على مقعد المتفرجين دخلت تركيا إلى ملعب الشرق الأوسط من جديد. بدايةٌ قويةٌ خاصةً مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مذ 17 عامًا. استطاع الحزب أن يضع تركيا بين الدول الكبرى في المجال الاقتصادي، وأن يضمن للقيادة التركية استقرار الداخل التركي. هذه التغييرات جعلت تركيا تركز بصورة أكبر على سياستها الخارجية، وكان الشرق الأوسط على رأس أولوياتها، أو «العالم العربي والإسلامي» كما يردد الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان. ولعل العروبة والإسلام هما المنطلق الأول الذي بدأت منه تركيا، اعتمادًا على التاريخ المشترك بين العرب والأتراك في العهد العثماني.

لكن العروبة والإسلام لا يكفيان كسببٍ مُقنع وراء الأدوار المتصاعدة لتركيا في الشرق الأوسط. فربما كانت الدوافع التركية براجماتية بحتة تركز على تحقيق المصلحة التركية والمواقف التركية ليست سوى ورقة تفاوض يمكن لتركيا التخلي عنها إذا اقتضت مصلحتها.يرى آخرون أن الاهتمام بالشرق الأوسط يأتي من رغبة تركيا في استعادة ذاتها الإسلامية ومعها تسترجع أهميتها في قلب العالم الإسلامي، يُدّعم تلك الرؤية أن الانفتاح التركي يتم في ظل وجود حزب ذي مرجعية إسلامية، ويُرجع بعض المحللين السبب إلى أن تركيا ترغب في كسب أكبر عددٍ من مناطق النفوذ كي تصبح مؤهلةً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

كما أنه يجب الأخذ في الاعتبار موضع تركيا الجغرافي، فربما كان هو الدافع الأكبر أو السبب الاضطراري وراء الدور التركي. تركيا مساحتها 780 ألف كيلو متر تقريبًا، 756 ألفًا منها في آسيا، و24 ألفًا في أوروبا. حدود تركيا 2753 كيلومتر تتوزع إلى 877 كيلومتر مع سوريا، و230 كيلومتر مع العراق، و454 من إيران. كما تطل على سواحل البحرين الأسود، والأبيض المتوسط، وبحر إيجة، ومضيق البوسفور والدرنديل. هذا الموقع الجغرافي يضع تركيا في قلب منطقة حيوية تموج بالتحركات والتغييرات، لذا ربما كانت تركيا مدفوعةً إلى القيام بهذا الدور الاستباقي.

اقرأ أيضًا: ا لتناقضات التركية: إسرائيل عدو أم صديق؟

إلا أنه مهما كانت الدوافع المُحركة لهذا الدور المتنامي فإنها لا تغير من حقيقة وقوعه، وأن تركيا بدأت بملء الفراغ الإقليمي في الشرق الأوسط الناتج عن تغيّر الخريطة السياسية بعد غزو العراق عام 2003 ثم ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس ثم مصر. ولم تجد تركيا معارضةً تُذكر في رحلتها داخل الشرق الأوسط، فهى لا تُعارض أمريكيًا ومقبولة شعبيًا. الولايات المتحدة لا تعترض لأنها ترى فرض تركيا لسيطرتها أهون من وجود الثقل الإيراني في المنطقة، ومقبولة شعبيًا إذ تُمثل تركيا مثالًا للتداول السلمي للسلطة، وحلًا واقعيًا لإشكالية توافق الإسلام والدولة.


القوى الناعمة

تركيا تبسط هيمنتها وتعمل على ملء ذلك الفراغ بجناحين، القوى الناعمة والقوة العسكرية.الخليج أول شاهد على رغبة تركيا في الانفتاح من خلال العزف على وتر الثقافة المشتركة بجانب الاتفاقيات الاقتصادية. لم تفرق تركيا في تعاونها الخليجي مع دولةٍ دون الأخرى، فقد مدت أيديها للجميع. وإذا وضعنا ترتيبًا على أساس عدد القمم التي جمعت أردوغان بقادة دول الخليج فستقع قطر في المرتبة الأولى. التقى أمير قطر بأردوغان 4 مرات في عام 2017 وحده، وفي آخر تلك الزيارات لأردوغان في ديسمبر/ كانون الأول 2017 قام الطرفان بتوقيع 15 اتفاقية تعاون مشترك في مختلف المجالات.

وافتتحت قطر المركز الثقافي التركي تتويجًا للتعاون المتراكم بين البلدين. هذا التتويج كان له شكل آخر عبر توقيع اتفاقياتٍ عسكرية تتيح النشر المشترك للجنود إذا اقتضت الحاجة، كما شهدت الأراضي القطرية مناورات «نصر 2015» المشتركة. إضافة لذلك يصل حجم التبادل التجاري بين البلدين لـ1.5 مليار دولار، وتستثمر قطر في تركيا ما قيمته 930 مليون دولار.

بعد قطر تأتي المملكة السعودية في المركز الثاني بـ3 قمم. وبعد آخر قمة في 2015 خرج عادل الجبير، وزير الخارجية آنذاك، مؤكدًا أن حوار أردوغان وسلمان سينتج إنشاء مجلس تعاون مشترك يديره وزيرا خارجية البلدين، لكن تدهورت العلاقة بين البلدين بعدما اندلعت الأزمة الدبلوماسية مع قطر، ثم كانت قضية مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي القاصمة، أما الكويت فتحل ثالثًا بقمة واحدة. في 28 أبريل/ نيسان 2015 التقى أردوغان وأمير الكويت. تحدث الرجلان عن ضرورة رفع التبادل التجاري بين البلدين من 569 مليون دولار إلى مليار دولار، كما تم توقيع أكثر من 36 اتفاقية مشتركة بين البلدين في مجالاتِ شتى.


مصر وإيران

الرقم الذي تطمح تركيا لتحقيقه مع الكويت حققت 5 أضعافه مع مصر، إذ صرّح القائم بالأعمال التركية في مصر، مصطفى آريغور، الخميس 23 مايو/ آيار 2018 بأن التجارة بين مصر وتركيا سجلت رقمًا قياسيًا بلغ ما يُقارب 5 .5 مليار دولار، بزيادةٍ قدرها 9.7% عن العام الماضي، وتبدو الأرقام آخذة في الزيادة بفضل اتفاقية التجارة الحرة التي دخلت حيز التنفيذ بين الطرفين منذ عام 2007.

عبر الدبلوماسية استطاعت تركيا أن تتوصل إلى اتفاق لتبادل الوقود الإيراني على أراضيها مما جنّب إيران مزيدًا من العقوبات الدولية. كذلك كانت تركيا هي الوسيط بين سوريا وإسرائيل في مفاوضات عام 2007 والتي توقفت من أجل العدوان الإسرائيلي على غزة. وسرعان ما ظهر الاهتمام التركي بسوريا عبر المسارعة للتوسط بين سوريا والعراق إثر أزمة تفجيرات «الأربعاء الأسود» في سبتمبر/ أيلول 2009 حيث أشارت أصابع اتهام الحكومة العراقية إلى الجانب السوري.

اقرأ أيضًا: 6 كتب تساعدك على فهم تاريخ تركيا الحديث

القمم التركية والوساطات المتتابعة والاتفاقيّات المختلفة مكنّت الجانب التركي من نسج شبكةٍ قوية ومتداخلة من العلاقات. كما ساعدت تركيا على التوغل في العمق الشرق أوسطي والإفريقي إلى حد استضافة أول قمة تركية إفريقية بمشاركة 53 رئيس دولة وحكومة إفريقية.

كما اتفقت تركيا والصومال على إنشاء قاعدة عسكرية تركية في الأراضي الصومالية. واستطاعت تركيا بدبلوماسيتها أن تحقق سياسة «صفر مشاكل» لدرجة حل مشاكلها التاريخية مع أرمينيا وفتح الحدود بين البلدين، كما صرّح بذلك أحمد داوود أوغلو، وزير الخارجية السابق، أن تركيا تعمل بمبدأ السلام الاستباقي وتسعى إلى تصفير مشكلاتها مع محيطها الإقليمي.


القوة العسكرية

بجانب الدبلوماسية، أو ربما قبل الدبلوماسية، لم تنس تركيا التأكيد من وقت لآخر على أنها موجودة بقوة في شرق المتوسط عبر المناورات العسكرية. أحدثها كانت «ذئب البحر 2019» أكبر مناورة بحرية في تاريخ تركيا، 131 سفينة، و57 طائرة، و33 مقاتلة. بدأت المناورات الاثنين 13 مايو/ آيار 2019 وانتهت، أمس، 25 مايو/ آيار. المناورات تأتي بعد التحذيرات الأمريكية والأوروبية من استمرار تركيا في التنقيب عن الغاز في «المنطقة الاقتصادية القبرصية الخالصة». تركيا من جانبها ردت بأنها لا تعترف بترسيم الحدود المُوقع بين قبرص والدول الأخرى الواقعة على البحر المتوسط، وبالتالي فإنها ليست مُلزمةً بتلك الاتفاقات، إذ ترى تركيا أنه يجب على قبرص أن توحد شقيّها التركي واليوناني قبل أن تبدأ في توقيع معاهداتٍ مع الدول الأخرى.

المناورات التي تقوم بها تركيا في ثلاثة بحارٍ في آن واحد هي: البحر المتوسط، وبحر إيجة، والبحر الأسود تشبه مناورات سابقة قامت بها تركيا في فبراير/ شباط 2019 تحت مُسمى «الوطن الأزرق»، ومن قبلهما مناورات «الشتاء 2019» المشتركة بين تركيا وعدة دول أخرى. ولا تبدو تركيا عازمة على التوقف إذ تزداد ميزانية الدفاع العسكري عامًا تلو الآخر، حتى وصلت إلى 19 مليار دولار عام 2018، بزيادة قدرها 24% عن العام السابق، يأتي هذا التصعيد بعد استثناء تركيا من مؤتمر «غاز المتوسط» الذي عُقد في القاهرة يناير/ كانون الثاني 2019.

إضافةً إلى المناورات في محيطها، فإن تركيا تسعى للتمدد خارج محيطها عسكريًا أيضًا. يتضح ذلك في المساعدات التركية الأخيرة لحكومة الوفاق الليبية. رغم أن أردوغان أكد عبر أكثر من اتصال هاتفي مع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج أن الحل لا بد أن يكون دبلوماسيًا، إلا أن ذلك لم يمنع من أن تبحث تركيا عن موطئ قدمٍ لها عبر الآليات العسكرية أيضًا.


خلافة عثمانية؟

حيثما تحركت تركيا لاحقها إرث الدولة العثمانية، إما لها أو عليها. طرف يرى الإرث العثماني دليلًا على أن تركيا لها تاريخ في القيادة، وأن أردوغان يتصرف من منطلق شعورٍ بالمسئولية تجاه العرب والمسلمين كما يظهر في السجالات الكلامية بين أردوغان وإسرائيل. وأطراف أخرى ترى في التاريخ العثماني أمرًا مخيفًا خشية أن تكون تحركات تركيا من أجل إنشاء «عثمانيّة جديدة». المصطلح الذي صاغه اليونانيون بعد الغزو التركي لقبرص عام 1974 يشير إلى أن كل تحركات تركيا في الشرق الأوسط ليست إلا وسيلةً عصريةً لاستعاد مناطق سيطرة الدولة العثمانية المنهارة.

هذا البعث التركي للإرث العثماني يبدو جليًا في الدراما التركية، مؤخرًا، بدءًا من مسلسل «قيامة أرطغرل»، ثم «عاصمة عبدالحميد»، وانتهاءً بمسلسل «محمد الفاتح». ومن الواضح أن تلك الدراما لا توجه إلى الداخل التركي فحسب، بل إلى أكثر من 100 دولة مسلمة، كما اصطحب أردوغان أبطال مسلسل أرطغرل في زيارة رسميةٍ إلى الكويت. وبجانب الدراما فقد استقبل أردوغان الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف على أنغام النشيد العثماني ومواكب الخيول، كما استقبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس بحرس شرفٍ يرتدون الزي العثماني التقليدي ويحملون السهام والنبال.

في النهاية تتقرر الحقيقة المتكررة أنه مهما كانت دوافع التحركات التركية في الشرق الأوسط، فإنه يبقى واقعًا آخذًا في النمو، و لا أحد يستطيع التكهن بمآلاتها ولا إلى مدى سيصل. والحقيقة الأخرى أن تركيا لن تترك منطقةً تعاني فراغًا دبلوماسيًا إلا ودخلتها، وتركيا أردوغان تعرف الطريقة المثلى للتوغل في داخل كل دولة.