كل يومٍ يمر من أيام مارس/آذار، تزداد بمروره حدة التوترات على الساحة السياسية في تركيا. ذلك لأن استحقاقاً بالغ الأهمية سيحدد تركيبة المشهد المحلي في تركيا لأربعة أعوام مقبلة: الانتخابات المحلية التركية.

تكتسب الانتخابات المحلية المقبلة أهمية خاصة من كونها آخر استحقاق انتخابي تشهده تركيا بعد فترة مليئة بالاستحقاقات الانتخابية؛ شهِدت ثمانية استحقاقات متتالية، لتدخل تركيا في «بياتٍ انتخابي» حتى عام 2023، مما يعني أن الأحزاب المتنافسة ستتمتع بفترة من الاستقرار السياسي تمكنها من استغلال مكاسبها من مقاعد المجالس البلدية في تعزيز قاعدتها الشعبية.

تُعقد الانتخابات المحلية التركية كل خمسة أعوام، لاختيار رؤساء بلدية ثلاثين مدينة كبرى، و1351 منطقة، و1251 عضو مجلس ولاية، و20 ألفا و500 عضو مجلس بلدية. ولا يفرض قانون الانتخابات المحلية التركية «عتبة قانونية»، أي حدًا أدنى من الأصوات التي ينبغي على الحزب أن يفوز بها قبل أن يحق لمرشحه شغل المنصب، وهو ما يمكِّن الأحزاب الصغيرة من المنافسة على مقاعد رئاسة البلديات، التي تجد فيها فرصتها في ظل عجزها عن تخطي العتبة الانتخابية الكبيرة في انتخابات البرلمان، والتي تبلغ 10%.

ويسعى حزب العدالة والتنمية إلى ترسيخ مكاسبه في الاستفتاءات والانتخابات الوطنية السابقة، بينما تُحاول المعارضة استغلال الأزمة الاقتصادية في انتزاع رئاسة بلديات كبرى، سعياً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وسيكون إخفاق المعارضة في ذلك إيذاناً بزلزال يضرب قياداتها التي تواجه سخطاً متزايداً من قواعدها على إثر فشلها المتكرر في مواجهة هيمنة العدالة والتنمية وتحالف الشعب على المشهد الانتخابي.

اقرأ أيضًا: تداعيات قانون الأحزاب على الحزب الحاكم والمعارضة


«الشعب» في مواجهة «الأمة»

التحالفات الرسمية أمر جديد نسبياً على تُركيا، أقره القانون للمرة الأولى في آذار/ مارس من العام الماضي، بحيث يسمح للأحزاب بإخطار اللجنة العليا للانتخابات بتشكيل تحالفٍ وخوض الانتخابات بمرشحين يحملون شعار أكثر من حزب في آن. وقد استقرت الأحزاب التركية على خوض الانتخابات المحلية بلا تغيير كبيرٍ في خارطة التحالفات التي شهدناها في استحقاقات 2018، إذ يستمر «تحالف الشعب» قائماً بين حزب العدالة التنمية الإسلامي المُحافظ وحزب الحركة القومية اليميني بقيادة دولت بهجلي، إلى جانب أحزاب أخرى أصغر ذات توجهات إسلامية وقومية.

وفي حين شهد ائتلاف العدالة والتنمية مع الحركة القومية هزة قبل أشهر على إثر إعلانهما فض التحالف، فإن أردوغان وبهجلي أعادا النظر في قرار انفصالهما، الذي من المحتمل أن يؤثر على نسبة مرشحي العدالة والتنمية من الأصوات في البلديات الكبرى. فحزب الحركة القومية مهمٌ لاسترضاء القاعدة القومية المُحافظة المؤيدة للعدالة والتنمية وتعزيز حملته الانتخابية القائمة على السياسات القومية والشعبوية.

ومن جانبه، قال بهجلي صراحةً، إنه يخشى من تغير الرياح الانتخابية بما يُفسح المجال أمام تقويض النظام الرئاسي الحالي، ويؤدي إلى ديكتاتورية مباشرة. ومن ثمَّ آثر الطرفان عدم التلاعب بتركيبة أثبتت نجاحها بالفعل في الاستحقاقات السابقة، وأعلنا عودة تشكيل التحالف وسحب مرشحي الحركة القومية من إسطنبول وأنقرة، وبلديات أخرى، في مقابل ترك حزب العدالة والتنمية مناطق مثل عثمانيه وإغدير لمرشحي الحركة القومية.

وفي جانب المعارضة، نجِد «تحالف الأمة»، الذي يضم حزب الشعب الجمهوري (يساري كمالي)، وحزب السعادة (إسلامي)، وحزب الخير (قومي). الأخير حزب جديد تأسس في 2017 على إثر انشقاق في صفوف حزب الحركة القومية ليقف في الجانب المعارض لسياسات حزب العدالة والتنمية. وقد عقد التحالف المعارض فيما يبدو ترتيباتٍ غير معلنة مع الأحزاب الكردية، وعلى رأسها حزب الشعب الديمقراطي، بعدم منافسة الأكراد على مقاعد رئاسة البلديات الكبرى، وأبرزها أنقرة، ومُساندة مرشحي المعارضة في المناطق الغربية، غير أن الطرفين ابتعدا عن الدخول في تحالفٍ رسمي تجنباً لرد فعل غير محسوب من قواعدهما نظراً للاختلافات الأيديولوجية بين القوميين التركيين والقوميين الأكراد، وأيضاً بفِعل الحملة الشرسة على الأحزاب الكردية، والتي شملت سجن نواب بالبرلمان وكوادر حزبية على خلفية اتهامات بـ«الإرهاب».

وتكمن الآفة الرئيسية لتحالف الأمة في الاختلافات الحادة التي تضرب صفوفه الداخلية، متسببة في فوضى ملحوظة واستقالات متكررة احتجاجًا على اختيارات المرشحين التي يراها البعض مصممة خصيصًا لحماية حزب الشعب الجمهوري، الحزب الأكبر والأقدم في التحالف، وقيادته المتمثلة في كليجدار أوغلو، على حساب باقي قوى التحالف.

قد ظهر غياب الانسجام بين القوى المكونة لتحالف الأمة المعارض في فشله في التوافق حول مرشح رئاسي في مواجهة أردوغان في الانتخابات العامة، مما أدى إلى حسمه الانتخابات الرئاسية في جولتها الأولى بغالبية أصوات إسطنبول وأنقرة في مواجهة محرم إنجه. كذلك ذهبت 53% من أصوات الناخبين إلى القوائم البرلمانية لتحالف الشعب، في مقابل 34% لتحالف الأمة. وقد حمَّلت تيارات داخل تحالف الأمة المعارض وداخل حزب الشعب الجمهوري نفسه كليجدار أوغلو مسؤولية هذه الهزيمة الثقيلة، ومن المرجح أن غياب أي نجاحٍ ملموس في انتخابات البلديات سيقضي على ما تبقى من رصيد له داخل الحزب.

غير أن الحزب قرر تأجيل إعادة ترتيب البيت الداخلي، في محاولةٍ لانتهاز فرصة خوض انتخابات البلدية في فترة تُعاني فيها تركيا من أزمة اقتصادية تركت أثرها على معدلات البطالة والتضخم وقيمة الليرة التركية وأسعار الغذاء. وقد سعت حكومة أردوغان إلى تنفيذ عدد من المسكنات غير الفعالة التي استهدفت تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية على الأتراك، ومنها بيع المواد الغذائية بأسعار مخفضة، مما أدى إلى تكدس المواطنين في طوابير طويلة أمام منافذ البيع التابعة للحكومة.

ومن ثمَّ يرى محللون أن وعود تقديم حلول مبتكرة لدفع عجلة الاقتصاد التركي الذي استغلته العدالة والتنمية منذ بداية الألفية قد بدأ يفقد بريقه. وهو ما تسعى المعارضة إلى استغلاله في انتخابات البلديات المقبلة، من أجل انتزاع مدينة من المدن الكبرى من قبضة العدالة والتنمية.

اقرأ أيضًا: الانتخابات البلدية ومسألة بقاء تركيا

وحريٌ بالعدالة والتنمية أن يقلق من انخفاض الأداء الاقتصادي قبل عامٍ من إجراء الانتخابات البلدية، فقد أشارت دراسةٌ تحليلية أجريت في عام 2006 إلى ارتباط نتائج الانتخابات البرلمانية والمحلية من الخمسينيات وحتى عام 2004 بالأداء الاقتصادي للحكومة في العام السابق على إجرائها، و تأثير العثرات الاقتصادية مباشرة على حصة الحزب الحاكم من الأصوات.


الصراع على المدن الكبرى

في القلب من الصراع على مقاعد رئاسة البلدية، تحل ثلاث مدن بالغة الأهمية تحظى بنصيب الأسد من الاهتمام الإعلامي والحزبي: إسطنبول، وأنقرة، وأزمير.

لطالما كانت المعركة على منصب عمدة إسطنبول، أكبر المدن التركية، هي الأهم والأشرس لعدة أسباب. ديمغرافياً، تضم إسطنبول 10 ملايين ونصف مليون ناخبٍ من أصل نحو 57 مليون ناخب داخل وخارج تركيا. وقد تولى رجب طيب أردوغان في عام 1994 المنصب على قائمة حزب الرفاه، خلفاً لنور الدين زوزن الذي اشتهر عهده بانقطاعات المياه وسوء حالة المرافق. أضافت إنجازات أردوغان في البنية التحتية ومحاربة الفساد في إسطنبول المتروبوليتانية الضخمة سياسيًا مكنه لاحقًا من تأسيس حزب العدالة والتنمية خلفًا لحزب الرفاه، والصعود إلى رئاسة الوزراء.

ومن ثمَّ يعرف أردوغان، أفضل من أي سياسي آخر في تركيا، ما يمكن أن يحققه شابٌ طموح بمنصب رئيس البلدية على مدار أربعة أعوام من الاستقرار الانتخابي. يلقي حزب العدالة والتنمية بأقوى أوراقه في المنافسة على منصب عمدة إسطنبول: بن علي يلدريم، رئيس البرلمان السابق منذ يوليو/ تموز 2018 حتى إعلان ترشحه للمنصب في فبراير/ شباط الماضي.

بعد أعوامٍ في منصب وزير النقل في حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة، اكتسب يلدريم خبرة هائلة بمشروعات البنية التحتية تؤهله للمنصب. لكنها ليست السبب الوحيد لترشيحه خلفًا لقدير طوباش، وإنما مكافأةً لتحالفٍ مع أردوغان دام عقدين من الزمان، لم يتأثر بتقديم داود أوغلو عليه في رئاسة الحزب في 2014.

وبرزت أهمية هذا الولاء غير المتزعزع في لحظةٍ حرجة اختلف فيها أردوغان مع رئيس وزرائه ورئيس حزبه، أحمد داود أوغلو، استقال على إثرها الأخير من منصبه وآثر الابتعاد عن الحياة السياسية. حينها تقدم يلدريم ليشغل منصب رئيس الوزراء عامين منذ مايو/ آيار 2016، ويطوِّع الحكومة لزيادة نفوذ الرئيس وتوسيع صلاحيات منصبه، تمهيدًا لإلغاء منصب رئيس الوزراء كليةً في يونيو/ حزيران 2018.

في انتخابات 2014، اختار الحزب بن علي يلدريم مرشحًا لرئاسة بلدية أزمير، ظنًا منه أن فوز يلدريم بمقعد البرلمان عن أزمير مرتين متتاليتين، ونجاح مشاريع القطار السريع وتطوير البنية التحتية والإنترنت وخدمات الخطوط الجوية التي اقترحها في زيادة شعبية العدالة والتنمية في أزمير، ستمكن يلدريم من التغلب على حزب الشعب الجمهوري في معقله. لكن عزيز كوكا أوغلو، في معقله الذي شغله منذ عام 2004، خالف نتائج الاستطلاعات، ونجح في الاحتفاظ بمنصبه ليحل يلدريم في المرتبة الثانية.

هذه المرة، يترشح يلدريم عن حزبه وحزب الحركة القومية لبلدية إسطنبول، في مواجهة أكرم إمام أوغلو، الرئيس الحالي لبلدية قضاء بيليك دوزو، ومرشح حزب الشعب الجمهوري وحزب الخير. ومع تباين الآراء حول أدائه في حل مشكلات المواطنين في قضاء بيليك دوزو، لاقى ترشيح إمام أوغلو انتقاداتٍ من بعض أعضاء الحزب، نظرًا لما يرونه من ضعف شعبيته في إسطنبول في مواجهة قامة سياسية مثل يلدريم، مفضلين ترشيح محرم إنجه الذي واجه أردوغان في انتخابات الرئاسة لعام 2018. غير أن محللين يعزون ترشيح إمام أوغلو إلى مُحاولة حزب الشعب الجمهوري تقديم مرشح يتسم بالتدين والحياد والبعد عن التعصب الحزبي، أملًا في الفوز بمقعد رئاسة البلدية في معقل العدالة والتنمية.

قد يبدو ترشيح يلدريم لرئاسة بلدية إسطنبول مقامرة غير محسوبة، لكن مهمته في انتخابات 31 مارس/ آذار أسهل من محاولات اقتحام أزمير في 2014، إذ إن إسطنبول لم تشهد رئيسًا للبلدية من خارج حزب العدالة والتنمية أو سلفه حزب الرفاه منذ أكثر من عقدين. وتعضد نتيجة الاستطلاعات تفوُّق يلدريم (46%) على إمام أوغلو (41%)، ومن ثمَّ سيُكمل يلدريم على الأرجح هيمنة العدالة والتنمية على إسطنبول لأربعة أعوامٍ إضافية، ما لم تخنه نتيجة الاستطلاعات مرة أخرى.

على عكس نظيره في إسطنبول، ليست الرياح مواتية لمرشح حزب العدالة والتنمية في العاصمة التركية أنقرة، وهو وزير آخر يقدمه حزب العدالة والتنمية لمنصب رئاسة البلدية. تولى محمد أوز هاسكي سابقًا منصب عمدة قيصري، ومثل يلدريم فقد شارك في تنفيذ مشاريع الإنشاءات والبنية التحتية الكبرى في عهده بوزارة التخطيط العمراني.

لكن الاستطلاعات أشارت في فبراير/ شباط إلى تأخر أوز هاسكي بعدة نقاط خلف منافسه الشرس، مرشح حزب الشعب الجمهوري منصور ياواش. وقد أثار ياواش ضجة كبيرة في 2014 حين اتهم اللجنة العليا للانتخابات بتزوير النتيجة لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية المثير للجدل، مليح كوكجاك، ليفوز بهامشٍ ضئيل للغاية.

ويبدو من الاستطلاعات أن حظوظ ياواش هذه المرة في الفوز ببلدية أنقرة قد يدعمها بتصويت إستراتيجي من جانب بعض مؤيدي حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية لصالح ياواش، خاصة وأن منافسه أوز هاسكي لا يتمتع بخبرة مباشرة في التعامل مع أهل أنقرة، كالتي اكتسبها ياواش من منصبه كرئيس منطقة بيبازاري بالعاصمة، لفترتين متتاليتين من 1999 حتى 2009.

أما عن أزمير، فالتوقعات تشير بقوة إلى أن حزب الشعب الجمهوري لن يخسر معقله القومي اليميني، وأن مرشحه تونك موير لن يخيِّب آمال القوميين في مواجهة نِهاد زيبكجي، وزير الاقتصاد السابق، الذي تُظهر الاستطلاعات تخلفه عن موير بأكثر من 10 نقاط.

حاليًا، تسيطر الأحزاب المكونة لتحالف الشعب على 55 مقعدًا من مقاعد رئاسة البلديات، في مقابل 15 مقعدًا فقط لتحالف الأمة المعارض. ومن غير المرجح أن تشهد خارطة البلديات في تركيا تغيرًا كبيرًا بعد انتهاء الانتخابات المحلية في 31 مارس/ آذار، على الرغم من التراجع الاقتصادي الذي تشهده تركيا. لكنَّ ما يخشاه حزب العدالة والتنمية والأحزاب الموالية له هو تراجع فاضِح في نسبة التصويت لمرشحي التحالف الحاكم يكشف عن انخفاض حادٍ في مستويات التأييد الشعبي، ربما يبلغ ذروته بخسارةٍ ثقيلة لرئاسة بلدية أنقرة، مما قد يُعطي دفعة قوية لقوى المعارضة للضغط على التحالف الحاكم على مدار الأعوام المقبلة، وكسب المزيد من الأتراك إلى قاعدة مؤيديها.