في روايته الجديدة الصادرة حديثًا عن دار الشروق، «جنازة جديدة لعماد حمدي»، يقدم الروائي المصري «وحيد الطويلة» قراءة جديدة للتحولات الكبرى التي حدثت في مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011. ورغم أنه لا يُشير بالتحديد إلى الزمن الذي تدور فيه أحداث الرواية فإن الكثير من التفاصيل والإشارات وطبيعة العلاقة بين النظام والأفراد داخل المجتمع المصري يفهم منها ببساطة أنها مصر بعد الثورة. 

كان «وحيد الطويلة» قد ناقش وتناول في روايته السابقة «حذاء فيلليني» تلك العلاقة الملتبسة بين الضحية والجلاد، والتحولات النفسية الداخلية المصاحبة للاثنين، دون تحديدٍ أيضًا لزمن ومكان الأحداث، وإن بقيت الإشارات واضحة إلى حديثه عن القمع بشكلٍ عام في الدول العربية.

أما هذه المرة فإنه يخوض بنا صراعًا من نوعٍ آخر مع  بطلٍ استثنائي من جهاز الشرطة، ولكنه فنان يرسم اللوحات ويسعى جاهدًا للخلاص من هذه الصورة النمطية التي تلاحق الضباط، حتى يقع فريسة أحد المسجلين خطرًا، وهم تلك الطائفة من المجرمين الذين اعتادوا الإجرام حتى سعت الحكومة، ممثلة في جهاز شرطتها، إلى الاستفادة منهم ومن قوتهم وقدرتهم لتنفيذ رغباتهم الخاصة. 

اقرأ أيضًا: حذاء فيلليني التحايل على القمع بالألاعيب السردية  

في بناءٍ سردي خاص جدًّا، ومن خلال استخدام لغة المخاطب منذ البداية التي تجعل القارئ متورطًا في تفاصيل العمل وشخصياته وأحداثه، يدخل بنا وحيد الطويلة «سرادق العزاء» المقام للجنازة، وخلال ذلك الطريق الذي يبدو طويلًا وبلا نهاية يستعرض لنا بشكلٍ ذكي سيرة حياة الضابط «فجنون» وعلاقته برئيس المسجلين الخطرين «ناجح» وابنه «هوجان» وما بينهما من شخصيات ومواقف وأحداث في عالم واسع متشابك ومعقد. 

ادخل الآن مرفوع الرأس، هذا سرادق أقامه الدكتور ناجح كبير المسجلين خطرًا بالبلاد، وربما البلاد العربية، الذي اعتزل وتحوَّل إلى كبير مرشدي البر كله، أقامه لنجله ووريثه – الله يرحمه – والذي كان يعده لخلافته وتسليمه الراية في الشهور القليلة القادمة. الدكتور هو لقبه الذي يقدم نفسه به، المسجلون أطلقوا عليه لقب الفيلسوف رغم أنهم لا ينطقونها صحيحة في أغلب الأحيان، لكنهم سمعوا أنه أعظم لقبٍ في الدولة، ولا أحد يستحقه سواه، وهو والحمد لله جدير به، إذ إنه لم يعد يدخل بيده في أي عملية، بل يكتفي بوضع خطة سنوية ويراقب التنفيذ، ولا يتدخل إلا في الحالات المتعسرة فقط.

في مشاهد قصيرة وموجزة، وعبر عددٍ من المواقف الدالة والمؤثرة، ينسج الطويلة خيوط روايته وعالمه، ذلك العالم السفلي للقاهرة الذي يسيطر فيه البلطجية على زمام الأمور، ويمتلكون قدرةً لم تكن لهم من قبل، بل ينجح تمامًا في تصوير تغيُّر الحال مرة أخرى بين الجلاد الضابط صاحب القوة والسطوة والكلمة الأولى، وبين البلطجي/المسجل خطر الذي تحوَّل إلى جلادٍ من نوع آخر، يمتلك زمام الأمور، بل يتسبب في أن يترك ذلك الضابط عمله كليةً. 

تقنيات سردية مختلفة 

لا يكتفي الطويلة باستخدام ضمير المخاطب في حكايته وسرد تفاصيل قصة الضابط، بل يتوجه مباشرةً إلى القارئ أكثر من مرة وبطرقٍ مختلفة للفت الانتباه، مستخدمًا عبارات من قبيل «احترس أيها القارئ»، أو «اسمعني جيدًا»، التي تجعل القارئ متشوقًا لمعرفة تفاصيل الحكاية التي يسردها الراوي بشكلٍ حميمي ، بل يقدم له النصائح المهمة لمواصلة قراءة الرواية والتعرف على عالمها.

بالإضافة إلى ذلك نجد قدرًا من السخرية المتناثرة بين المواقف التي يعرضها السارد في تلك العلاقة الملتبسة التي جمعت بين الضابط الفنان، وبين المسجل خطرًا الذي يفرض عليه سطوته، ليس فقط في علاقتهما بل في من يظهر من شخصيات ثانوية تزخر بهم الرواية، ويمثلون أيقونات ثابتة لهذا العالم الغريب، مثل «قنبل»، والمعلم شحتة، وعبقرينو، وغيرهم، تلك الشخصيات التي يرسمها الطويلة باقتدار وتظل عالقة بذهن القارئ حتى بعد نهاية الرواية.

كما ينتقل السرد بسلاسة عبر فصول الرواية القصيرة بين ضمير المخاطب والمتكلم، بين الماضي والحاضر، بطريقة تمنح الرواية المزيد من الحيوية وتجعلها زاخرة بالأحداث والمواقف التي تكشف عن ذلك العالم. بعد ذلك كله يقترح الطويلة في نهاية الرواية على القارئ أن يغيَّر عنوان الرواية بالعنوان الذي يحبه، فيخيره بين «جمال طبيعي»، و«عشاء خفيف للأم تريزا»، أو «نظرية الشبورة» وغيرها من العناوين، مما يجعلنا نعود إلى عنوان الرواية الذي جاء فيه على ذكر عماد حمدي وجنازته. 

اقرأ أيضًا: جوائز للأبطال .. في نقد ثورة يناير وأبطالها 

لا شك أن العنوان يمثل عتبةً أساسية لأي نص أو كتاب، ولا شك أنه يمثل جزءًا خاصًّا ومهما في قراءة الرواية، فإن القارئ سيكتشف أن ذلك العنوان الذي يشير إلى أحد أبطال الدراما المعروفين عماد حمدي، لم يكن إلا رمزًا عابرًا للرواية التي يعلم الجميع بعد قراءتها أنها تكشف بجلاء عن العلاقة بين سلطة رجال الداخلية وعالمهم وبين البلطجية والمجرمين.

ولم تكن جنازة عماد حمدي في الرواية إلا مشهدًا عابرًا يتذكره البطل أثناء بداية عمله في جهاز الشرطة، ولكن يبدو أنه بقي رمزًا كبيرًا بالنسبة له للعلاقة التي تجمع بين ضابط شرطة يفترض أن يكون كل همه القبض على المجرمين، وبين حارسٍ أمني يقف متابعًا جنازة الفنان الذي لم يهتم بوفاته أحد. 

ما زالت صورة عماد حمدي على الحائط في المكان نفسه، على الحائط المقابل واحدةٌ مثلها تمامًا وهو يحمل الجوزة ذاتها في فيلم «ثرثرة فوق النيل»، يائسًا يقوم بالتخديم على أصحاب المزاج العالي، هو هو لم يتغيَّر – وإن صارت الصورة باهتة – وحل محله الآن آلاف يقومون بالتخديم على كل شيء. يقوم من مقعده لأول مرة يرى الصورة عن قرب، مكتوبٌ تحتها أنه ودع الدنيا بائسًا يائسًا، ودعها على شاكلة صورته، وودعته هي بركلة حذاء قديم، مقدمًا ليس في خزانته جنيه واحد، كما ودعت إدجار آلان بو وكافكا وموزارت، لم يزد عدد الذين مشوا في جنازةٍ كلٍ منهم عن عشرة أشخاص.  

لا شك أن ثمة رمزية خفية ستبدو للقارئ عند مقارنة عماد حمدي ببطل الرواية الضابط الفنان. فجنونه، والتحولات التي صاحبت عمله بالشرطة، وكيف اكتشف من خلال التحاقه بهذا العمل وتعرفه على المجرمين مصر الأخرى التي لم يكن ليعرف شيئًا عنها، لكن الطويلة لا يتوقف طويلًا عند تلك المقارنة، بل يترك الباب مفتوحًا للتأويلات والربط الدائم بين الواقع والخيال، ويعود مرة أخرى بقارئه إلى العالم السري الخفي للمسجلين وما يصاحب حياتهم من جرائم ومواقف ومشكلات.  

هكذا استطاع وحيد الطويلة أن يخوض بنا داخل عالم المجرمين، وأن يرصد عن كثب علاقتهم الوطيد بأحد أهم أجهزة الدولة المصرية، وكيف يتم التلاعب بهم والسيطرة عليهم، وكيف يحقق كل طرفٍ منهم ما يريده، ويبقى في النهاية أن الصراع لا يزال دائرًا بين عالمين يفترض كل واحدٍ منهما أحقيته في فرض القوة والسيطرة على الآخر، وهو ما يعكس بجلاء ذلك الوضع الراهن الذي أصبحت مصر والمصريون فيه ضحايا بين قبضة أمنية من جهة وبلطجية ومجرمين لا يرحمون من جهةٍ أخرى.

وحيد الطويلة روائي مصري من مواليد كفر الشيخ،  صدر له عدد من الروايات والمجموعات القصصية، حصل على جائزة ساويرس في الإبداع عن روايته «باب الليل» عام 2015.