المونتاج هو وسيلة المخرج لعرض قصة الفيلم أو مشاهده بالطريقة التي يريدها. ولذلك فإن أغلب -إن لم يكن كل- المهرجانات الأوروبية لا تعترف بجوائز مثل جائزة أفضل مونتاج، نظرًا لأن تصور سرد أو عرض الفيلم هو أحد واجبات المخرج، بل ربما يكون هو المهمة الأساسية للمخرج بعد الصورة.

في المقابل، تخصص أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة، المانحة لجائزة الأوسكار، إحدى جوائزها للمونتاج منفصلًا ويتسلمها المونتير وليس المخرج. وبالتالي تلك جائزة تقنية بحتة تمنح لإسهام المونتير الفني من ضبط للإيقاع الزمني، وتلافي حدوث أي خطأ في ترتيب اللقطات… إلخ. بالإضافة إلى أن الأفلام المرشحة تكون على الأغلب ذات تصور سردي مميز (وهي مهمة المخرج).

ولكن لنبتعد عن الجانب التقني البحت. والذي يفهمه متخصصو برامج المونتاج. ودعونا نتحدث عما ميز أو لا يميز الأفلام المرشحة لجائزة أفضل مونتاج عن غيرها.


Baby Driver

«بيبي» لديه مشكلة في أذنيه تجعله يسمع صريرًا دائمًا، يعالجها بسماع الموسيقى المستمر. فدائمًا تكون السماعة على أذنه حتى وهو يقود السيارة أثناء مطاردة خطرة. يدمج المخرج البريطاني «إيدجار رايت» بين التصور البصري والصوتي للفيلم.

فهو يريد الدمج بين حركة بيبي أو قيادته للسيارة، وبين الأغاني التي يسمعها. فتصبح الصورة -حرفيًا- راقصة. تصور جامح من «إيدجار رايت»، نجاحه سيجعل للفيلم مكانة مميزة. وفشله سيحوله لمجرد فيلم حركة ومطاردات سخيف.

في المشهد أعلاه نرى تتابعًا لإحدى المطاردات. يبدأ التتابع بتشغيل أغنية جديدة صاخبة تناسب عملية السطو، ونرى بيبي وهو يقوم بعمل بعض الحركات باستخدام السيارة أو يديه، كمسح الزجاج، والرقص، وغيرها.

تلك الحركات تتناسب مع سرعة ورتم الموسيقى. وبعد انتهاء عملية السطو يركب الفريق السيارة ويبدأ بيبي رحلة الهروب من الشرطة، وهي الرحلة التي تسير على إيقاع أغنية جديدة. كل حركة في ذلك المشهد، كل قطع مونتاجي، كل صوت فرعي خارج الأغنية (كأصوات عربات البوليس وصريخ المارة)، يسير مع نغمات الأغنية وكلماتها.

لذلك كان على المونتير ضبط كل شيء على موسيقى الأغنية وكلماتها، دون الإخلال بالمعلومات التي يجب تقديمها للمشاهد، واستمرارية المشهد وإيقاعه، ودون أن يفقد المشاهد تفاعله بالشخصيات والدراما لصالح الحركة والموسيقى. «Baby Driver» ليس مجرد فيلم حركة ذي مونتاج مميز. بل يمكن القول إنه ذو تصور فريد مونتاجيًا. ولذلك يعد هو المرشح الأبرز للفوز بجائزة المونتاج.


Dunkirk

السرد المونتاجي المعقد هو أحد الركائز الأساسية لأفلام «كرستوفر نولان»، حتى في أفلامه التي لا تتضمن التواءات كبيرة في الحبكة، تظهر وكأنها معقدة وغير مفهومة. بفضل اعتماده على التلاعب بعنصري الزمان والمكان، كما في فيلم «Inception». وبالتالي أصبح ترشح أفلام نولان لجائزة المونتاج أقرب إلى أمر بديهي مسلم به لدى لجنة الأوسكار.

يتكرر الأمر مع فيلم «Dunkirk»، ويعتبر هو المنافس الحقيقي الوحيد لفيلم «Baby Driver» على الجائزة. اعتمد نولان على سرد معركة Dunkirk الشهيرة من ثلاث وجهات نظر، برًا؛ من خلا الجنود المحاصرين، وبحرًا؛ من خلال أحد المراكب المدنية التي تحاول إنقاذ الجنود، وجوًا؛ من خلال هجوم الطائرات.

اقرأ أيضا:ملحمة «Dunkirk»: لقد رأينا كل شيء

هذا السرد المعقد ساهم في إظهار تعقيد المعركة وكيف يراها كل الأطراف. وجعل المشاهد محل كل الأطراف. ربما لا توجد قصة درامية مؤثرة بشكل كبير. ولكن يوجد توريط واضح للجمهور في أحداث المعركة. وقد نجح المونتير في كل هذه التحديات، وضبط الاستمرارية الزمنية بين الثلاثة الخطوط، دون أخطاء تقريبًا. مع دمج هذه الخطوط بموسيقى «هانز زيمر» المميزة.


I, Tonya

تواجه متزلجة الجليد الشهيرة «تونيا هاردينج» أزمة كبيرة تهدد مستقبلها، وقد تعرضها لعقوبات رياضية وجنائية، حين يتلاعب طليقها بنتائج اللعبة.

أقل المرشحين لجائزة المونتاج حظًا، بل إن ترشيحه كان مفاجئًا إلى حد كبير. ولكن يمكن توقع سبب ترشحه، فالفيلم ينتمي لفئة الأفلام الرياضية التي تطلب قدرًا كبيرًا من التحكم في استمرارية المشاهد، وضبط زمن القطعات بدقة. بالإضافة لتهدئة الإيقاع في بناء القصة الدرامي مع عدم الإخلال بالإثارة، وزيادة الإثارة لأقصاها في اللحظات التنافسية مع عدم الإخلال بالدراما.

ولكن للفيلم ميزة أخرى مهمة وفريدة. تظهر أن الفيلم لم يخلُ من الأفكار الجامحة. حيث إنه يحتوى على الكثير من المشاهد الوثائقية غير الحقيقية (مشاهد تمثيلية ولكنها مصورة وكأنها جزء من تحقيق وثائقي عن الواقعة الشهيرة). بالإضافة للمشاهد التي كُسر فيها الحائط الرابع. إذن الفيلم يحتوي على تصور مونتاجي يستحق التقدير. يجمع بين الحدث الرياضي، وبين الشكل الوثائقي. كل ذلك نجح المونتير في إيصاله دون الإخلال بالإيقاع.


The Shape Of Water

بعد مشاهدة الفيلم، أول ما سيقفز إلى عقل المشاهد سؤال؛ ما المميز في المونتاج وفي سرد الفيلم؟ فأسلوب العرض شديد التقليدية لا جديد فيه. قد تبدو الإجابة صحيحة. ولكن ليس المونتاج المميز هو الجديد من نوعه. بل الذي يطبق الحلول الأفضل والأسلس حتى لو كانت تقليدية. دعونا نسمع الإجابة من مونتير الفيلم «سيدني ويلنسكي». الذي ظل يعمل طوال 40 عامًا في التليفزيون، وحسب قوله، فإنه لم يكن هناك فرصة للإبداع في التليفزيون بسبب التقيد بزمن التسليم.

اقرأ أيضًا:فيلم «The Shape Of Water»: وحوش ديل تورو بانتظار الأوسكار

يقول ولينسكي إنه عندما قرأ السيناريو وجد الفقرات الموسيقية مكتوبة. بالإضافة للتفاصيل السحرية مثل؛ الرجل الذي ينتظر الأتوبيس وفي يده الكعكة والبلونات. وكيف أن هذا المشهد ذكَّره بأفلام «فليني». عندها وجد نفسه أمام تساؤلات صعبة. كم سيكون زمن المشهد، ومتى سيتم القطع مع عدم الإخلال بالإيقاع حتى لا يفقد المشاهد اهتمامه. بالإضافة لأن كل مقطوعة موسيقية تربط بين أكثر من مشهد. مثل مشهد الرقص الذي انتهى، ولكن الموسيقى تستمر معنا إلى المشاهد التالية.

بالإضافة للتحكم في العديد من المشاهد الطويلة، كمشهد المحاورة بين سالي وريتشرد جينكس. ومشاهد الانتقال بين الطوابق المختلفة لتبدو كأنها لقطة واحدة. كلها تفاصيل لم تكن جديدة أو شديدة التفرد، ولكنها تحتاج لدقة متناهية وأفكار سلسة وليست جامدة.

فيلم «The Shape Of Water» هو الأوفر حظًا في موسم الجوائز هذا العام بإجمالي 13 ترشيحًا لجائزة الأوسكار.


Three Billboards Outside Ebbing, Missouri

لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لهذا الفيلم عن سابقه. فالمونتاج اعتمد على الحلول الأكثر سلاسة، والتي لا تفقد المشاهد الحماس للفيلم، وليست الحلول المعقدة أو التلاعب الزمني بترتيب اللقطات. واعتمد على بعض الاختيارات الصعبة كاستكمال رسالة انتحار الشريف في بعض اللقطات بعد موته.

والدمج بين نصيحته لمساعده بضرورة الإكمال على دربه في صورة التعليق الصوتي «Voice Over»، بينما الصورة توضح تعديه على الفتى وإلقاءه من الطابق الثاني. وغيرها من المشاهد التي تجمع بين الصورة والموسيقى المستخدمة. ولكن في المجمل يمكن القول إن هذا الفيلم لا يحمل بصمة مونتاجية مؤثرة كبقية منافسيه.