هو الإله الواحد الأحد، هو الحقيقة المطلقة، الخالق الخالد، لم يولد ولن يموت. في بادئ الأمر كان هو الحقيقة، وعلى مر الزمان بقي الحقيقة، وسيظل للأبد.
جورو جرانث صاحب[1]

كان أول ما استرعى انتباهي وأنا جالس أستمع إلى صلاة بجردوارا [2] بانجلا صاحب، أكبر معابد السيخ [3] في «دلهي»، تلك الكلمات التي تتابعت على شاشة العرض الكبيرة، مُترجمة إلى الإنجليزية، ومقروءة بالهندية في الأصل. أربكني ما قرأت، فقد كنت أحسب قبل دقائق أن السيخ، كسائر أتباع ديانات الهند الدرامية، يؤمنون ملء خيالهم، ناسجين أساطير عديدة حول عدد لا نهائي من الآلهة؛ وهو الأمر الذي دمرته تلك الكلمات تمامًا.

جردوارا بانجلا صاحب
جردوارا بانجلا صاحب، أكبر معابد السيخ بالهند

لم تشبعني القراءات الجافة ولا الأجوبة المبتورة لمن عرفتهم من السيخ في دلهي، لذلك، بعد أيام قليلة كنت على متن قطار المعبد الذهبي، في رحلة مدتها 12 ساعة، متجها إلى مدينة «أمريتسار»، حوض الرحيق السيخي المقدس بقلب «البنجاب».

لا الشمس ولا القمر أو الكواكب، لا القارات أو المحيطات، ولا الطعام ولا الرياح، لا شيء يبقى خالدًا، وحدك يا إلهي، وحدك.
جورو جرانث صاحب، 144

لثلاثة أيام كاملة اختفى «ناناك»[4] في الغابة دون أثر واحد، كان ناناك يعمل محاسبًا عند حاكم مدينة «سلطانبور»، وكان معروفًا لدى كل أهل القرى المجاورة بسمعته الطيبة، يحضر جلساته ودروسه العديد من المسلمين والهندوس، فينشد هو ترانيم صوفية أو هندوسية بينما يعزف رفيقه المسلم على الرباب. أثار اختفاء ناناك شكوكًا كثيرة، حتى أن الفلاحين زعموا أنه غرق بينما كان يستحم في النهر، لكن ناناك ظهر في اليوم الثالث وهو في حال بالغة من الذهول، لم يخاطب أحدًا كأنما الجميع هواء، وظل بصره شاخصًا إلى السماء. حين تحدث، بعد فترة طويلة، قال: «كنت بحضرة الإله.. لا يوجد هندوسي .. لا يوجد مسلم .. الآن اهتديت إلى الدين القويم».

رغم أن أطروحة ناناك لم تكن قد تبلورت بعد كدين مستقل، إلا أنها لاقت صداها عند القلوب التى أثقلتها مرارة الحروب الطائفية والنزاعات المتكررة، تقول الأسطورة -التي لا يملك أحد عليها نفيًا ولا إثباتًا- إن ناناك ساح في شتى بقاع الأرض مدة 24 سنة، برفقة عازف الرباب المسلم «ماردانا»، فزار شمال الهند وجنوبها وشرقها، قبل أن يتجهوا في الرحلة الأخيرة غربا، إلى «كاراتشي» و«عدن» و«مكة» و«المدينة» و«بغداد» و«طهران» و«تركيا»، وتشير بعض المصادر إلى أن «الجورو» قد وصل إلى روما؛ مبشرًا في كل مدينة نزلها «برسالة الله الحقة»، أو مكتفيًا بالتعرف على عقائد البلدان.

تقول عقيدة السيخ -والتي رسخت فيما بعد على أيدي الجوروات الذين خلفوا ناناك- بوحدانية الله، الخالد، المتعالي عن الوصف، الذي لا يمكن الرمز إليه بصنم أو تجسيده في أي بشر كان، الله الحاضر في كل مكان، في كل حي. يعتقد السيخ في المساواة التامة بين البشر، فلا تفرقة طبقية أو عرقية أو جنسية. كما يؤمنون بأن الروح تدخل في دوامة طويلة من التناسخ بعد فناء الجسد، ولا تتخلص من تلك الدوامة إلا بالإيمان الصادق ومعرفة الله بالقلوب النقية، حينها يمكنها الفكاك والنفاذ إلى الجنة الأبدية.

وبخلاف ديانات الهندوس، التي تحض على العزلة التامة والارتقاء عن دنس العالم، كسبيل وحيد إلى بلوغ القدسية والعيش في حضرة الرب، رأى الجورو ناناك أن الزهد، كالانغماس في الشهوات، خطيئة كبرى، وأن الإغواء يجد طريقًا أسهل للنفوس في عزلتها، فأمر السيخ بالسعي والحركة والعمل. ولم يولِ اهتمامًا كبيرًا لنظم طقوس تعبدية واضحة كالحج أو الصيام، إذ قال على الدوام إن المعبد الحقيقي الوحيد والذي لا ينقطع الله عن الحضور فيه هو القلب البشري النقي.

خلف ناناك عشرة معلمين بيّنوا للسيخ تعاليم دينهم وأرسوا دعائمه، قبل أن يعلن المعلم العاشر، مطلع القرن الثامن عشر أن زمن الجوروات قد ولى، وأن المعلم الحادي عشر والأخير هو «الجورو جرانث صاحب»؛ كتاب السيخ المقدس.

هو الإله الواحد المطلق، لا إله إلا هو، الروح والجسد كلاهما ملك له، كل ما يرضي مشيئته يتحقق بأمره.
جورو جرانث صاحب، 45

كل معلم تزوره يفقد بهاءه الأول من كثرة القراءة عنه ومشاهدة صوره، حدث ذلك مع كل مكان زرته بالهند تقريبًا، إلا تاج محل والمعبد الذهبي.

بعد أن خلعت نعليّ وخطوت في بركة صناعية صغيرة حفرت على بوابة المعبد، لكي تغسل فيها الأقدام قبل الولوج إلى بيت الرب، واجتزت جموع الساجدين تحية للمعبد برهبة وخشوع، بعمائمهم الكبيرة الملونة، ولحاهم المسترسلة. رشقني صفاء اللونين الذهبي والأزرق بنشوة عجيبة. كانت الترانيم تصدح في الأرجاء كأنما استحال الهواء أنغامًا، والناس يطوفون في اتجاه عقارب الساعة، يرددون الصلوات وابتسماتهم العذبة تداري عفرة وجوههم المرهقة، يقبضون بأناملهم على حبات المسابح الخشبية الصغيرة، ويحملون نذور «البارشاد»، وهي حلوى شديدة الطعامة، تصنع من طحين القمح والزبد المنقى والسكر، وتؤخذ بكلتا اليدين -احترامًا- مباشرة من يد أحد كهنة المعبد.


المعبد الذهبي

يعد المعبد الذهبي أقدس معابد السيخ وأهمها، ويقوم وسط بحيرة صناعية كبيرة، تسبح بها أسماك ملونة، ويخوض فيها حجاج السيخ للتطهر الجسدي والروحي قبل دخول بيت الله، ما إن اقتربت منها قاصدًا غسل يدي حتى نهرني أحد حراس [5] المعبد بشدة، ففهمت أنها مقتصرة على أتباع الديانة.

المعبد الذهبي
المعبد الذهبي، أهم معابد السيخ بالهند

ترمز البحيرة إلى المحيط؛ أي الحياة الدنيوية، بينما يشكل المعبد، بقبابه المطلية بالذهب، والمشغولة بزخارف بديعة وسقفه المرصع بالأحجار الكريمة، السفينة. فلا يمكن الوصول إلى الله إلا من خلال تلك السفينة، التى يؤكد السيخ دومًا أن ربانها الوحيد هو القلب النقي. وحكى لي بعض سكان «أمريتسار»، عند معرفتهم بإسلامي، أن الجورو الخامس، الذي اتخذ قرار بناء المعبد الذهبي، قد دعا أحد كبار المسلمين المتصوفة في البلاد وهو الإمام «ميان مير» لوضع حجر الأساس للمعبد.

يضم المعبد في قاعته الرئيسية المكسوة بالرخام الأبيض النسخة الأصلية، المخطوطة بيد المعلم العاشر، من كتاب السيخ المقدس، الذي يضم بين ثناياه 600 ألف نشيد نظمها الجوروات أو جمعوها من التراث الهندوسي والإسلامي. يعكف أحد القديسين طوال ساعات اليوم على الترتيل منها، بينما يتبرك الحجاج بالجلوس في القاعة وتأدية الصلوات أمام الكتاب.

يلتزم السيخي المخلص بخمسة تعاليم رمزية، تبدأ كلها بحرف الكاف:

– كيش: الامتناع عن قص الشعر مدى الحياة، وذلك لمنع تسلل الغرباء.

– كانجا: مشط لتصفيف الشعر.

– كيربان: خنجر يتمنطقون به للدفاع عن النفس.

– كارا: سوار من الصلب يُرتدى في المعصم.

– كاخ: سروال قصير يرتدى تحت الثياب.

كما يلتزمون بارتداء التربان، وهي عمامة كبيرة فوق الرأس لحماية الشعر، وتنتشر في كل مدنهم محال كبيرة لبيعها، ويجب على كل زائر لأي معبد سيخي بارتداء غطاء للرأس كتعبير عن الاحترام.

حارس المعبد الذهبي
الكاتب عمر سليم مع أحد حراس المعبد الذهبي

كنت رأيتهم ونحن في عربة النوم بالقطار، وقد خلعوا عمائهم فلامست شعورهم الحريرية الأرض على الفور، قال لي أحدهم حين لاحظ دهشتي: في بداية الدعوة كانوا يفعلون ذلك لمنع تسلل الغرباء، اليوم نفعله وفاءً لهم.

في صحوك ومنامك يصحبك الرب دومًا، يرعاك. بذكر اسمه ينقشع كل خوف.
جورو جرانث صاحب،196

مائتي ألف رغيف من الخبز، طن ونصف من العدس، طن ونصف من الأرز، إضافة إلى لترات لا نهائية من الماء، هو مجموع ما يقدمه مطبخ المعبد الذهبي لزواره يوميًا، وهو دون شك المطبخ المجاني الأكبر في العالم. يقوم بإعداد الطعام في المطبخ مئات المتطوعين من السيخ أو أي ديانة أخرى، ويقدم لكل الزوار بالمجان على مدار ساعات اليوم، عطية من الإله لزوار بيته.

مطبخ المعبد الذهبي
مطبخ المعبد الذهبي، أقدس معابد السيخ بالهند

في قاعة هائلة اصطففنا على الأرض دون أي سؤال عن الهوية، كان جل الجلوس من الهندوس والمسلمين من سكان أمريتسار، وُزعت علينا أطباق كبيرة وملاعق وإناء صغير للماء، وطاف بيننا شباب وشيوخ متطوعون يوزعون مكونات الوجبة النباتية الشهية، رغيفان من الخبز، أرز باللبن وجوز الهند، وشوربة عدس، ولا يكفون عن توزيع المزيد من الطعام كلما فرغ صحنك، لكنهم يطلبون منك بابتسامة رقيقة ألا تخلف أي طعام وراءك؛ لأنه هدية من الله الذي لا ترد عطاياه أبدًا.

أنت ربنا وسيدنا، إليك تُرفع صلواتنا، إليك أجسادنا وأرواحنا، نحن الأبناء وأنت لنا الأم والأب، لا يعلم أحد حدود مقدرتك، أنت ربنا الأعلى، كل حي بخيطك مربوط، كلٌ آتٍ منك، وكلٌ رهن إشارتك.
جورو جرانث صاحب، 268

لقراءة الحلقات الأولي من سلسلة «ماللهند»؛

الحلقة الأولي:طريق يمتد كمزارع زعفران ﻻ نهائية

الحلقة الثانية:الواقعة البوشكارية

المراجع
  1. جورو جرانث صاحب هو الكتاب المقدس عند السيخ، وقد جمعه المعلم العاشر جوبند.
  2. جورودوارا: تعني المدخل إلى الجورو، وهي كلمة تطلق على كل معابد السيخ.
  3. كلمة سيخي تعني التلميذ أو التابع، فيما تعني كلمة جورو المعلم.
  4. الجورو ناناك، المعلم الأول، مؤسس الديانة السيخية مطلع القرن السادس عشر
  5. يكون حراس المعبد من طائفة الخالصة، وهي طائفة من المحاربين السيخ أسسها الجورو العاشر والأخير لحماية الديانة.