ذهبت إلى السينما للمرة الأولى وأنا ابن 17 عاما، كان ذلك فى يوم الاثنين. في يوم الثلاثاء أردت البدء في صنع الأفلام.

في حفل جوائز الأوسكار في بداية عام 1975 كان جالساً بين الحضور، بلحية تغطي نصف وجهه، وبدلة رسمية سوداء، وبخمس ترشيحات لجوائز الأوسكار. رقم كبير ومبهر من الترشيحات لصانع سينما شاب لازال جديدا في هوليود، لكن الأكثر إبهارا أنه تلقى ترشيحين لفليمين مختلفين لجائزة أفضل فيلم في العام.

إنه «فرانسيس فورد كوبولا» بعد نهاية عامه التاريخي «1974» حينما نافس نفسه بفيلميه «The Godfather II»، و«The Conversation» على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم في العام. ليحصد الأول الجائزة بعد أن حصد الثاني السعفة الذهبية «الجائزة الكبرى» لمهرجان كان.


The Godfather II: تكرار المعجزات شيء مرهق للغاية

في عام 1972 صنع كوبولا معجزته الأولى حينما أخرج الجزء الأول من «العراب» تحت ضغوطات شديدة من شركة Paramount للإنتاج. صور كوبولا الفيلم وهو مهدد بالطرد نتيجة إصراره على اختيار «آل باتشينو» و«مارلون براندو» في أداور البطولة على عكس رغبة الشركة. كان كوبولا شابا صغيرا وصانع سينما طموحا غارقا في ديونه.

نجحت المعجزة في النهاية وأصبح الفيلم حديث الجميع. مدحه النقاد وكان أشبه بثورة سينمائية بين الجماهير. هناك قاعدة مشهورة تخبرنا بأن المعجزات لا تتكرر، وهناك قاعدة أكثر شهرة تخبرنا بأن الأجزاء الثانية من الأفلام الناجحة غالبا ما تفشل. ولكن يبدو أن كوبولا لم يهتم بكل هذه القواعد.

اقرأ أيضا:«آل باتشينو»: السنوات الأربع الأولى تكفي

في عام 1974 صنع كوبولا الجزء الثاني من ملحمته، بحرية أكبر واستقلالية أكبر عن شركة الإنتاج. انتقل لمواقع تصوير داخل أمريكا وخارجها. صور حكاية عائلة كورليوني بشكل مختلف، حكاية الابن والأب وهما فى نفس العمر. آل باتشينو فى دور «مايكل»، قائد العائلة الذي يحاول إنقاذها في نفس الوقت الذي يحارب فيه الخيانة من الداخل. وروبرت دينيرو فى دور «فيتو كورليوني» شابا، المهاجر الإيطالي الذى يحاول أن يكسب لنفسه احتراما ويصنع لعائلته مستقبلا في أمريكا.

شارك كوبولا مرة أخرى في كتابة الحكاية مع مؤلف الرواية «ماريو بوزو»، ولكنه سيطر في هذا الجزء على الأحداث بشكل أكبر. خرج الفيلم في النهاية بشكل أكثر عمقا حتى من الجزء الأول. حينما عُرض الفيلم أخيرا، وفي الأيام الأولى تجاوزت إيراداته الجزء الأول. وقبل نهاية الموسم أصبح فيلم النقاد المفضل. تكررت المعجزة وبشكل أكثر ملحمية.

قبل ذلك بعامين لم يهتم كوبولا بجائزة الأوسكار، ظن أن كل شيء مضمون فى ظل الاستقبال الحافل الذي حظي به الجزء الأول حينها. ولكنه خسر لصالح الفيلم الموسيقي Cabaret الذي حصد ثماني جوائز أوسكار في نهاية الليلة، من بينها جائزة أفضل مخرج. حينها وفقط شعر كوبولا أنه لطالما احتاج هذه الجائزة، شعر أن هذا الفيلم كان فرصته الوحيدة لأنه صانع سينما صاحب ذوق مختلف، وربما لن يحالفه الحظ مرة أخرى فب صنع فيلم يعجب النقاد وتتصارع الجماهير على مشاهدته.

في هذه المرة صعد بهدوء لثلاث مرات متتالية ليحصد جوائز الكتابة والإخراج، وأخيرا جائزة أفضل فيلم عن The Godfather II. أخبرهم حينها مازحا: «لقد كنت على وشك الفوز بهذه الجائزة منذ عامين، ولهذا صنعت جزءًا ثانياً».


The Conversation: رعب نفسي أكبر من هذا سوف يجيء

صنع كوبولا The Conversation في نفس العام الذي صنع فيه الجزء الثاني الملحمي من العراب. كان النص هنا من تأليفه بشكل كامل، وكان المشروع مؤجل منذ ثلاث سنوات حينما عرض المسودة على «براندو» ليقوم بدور البطولة. حينها رفض براندو المشروع، ثم شارك كوبولا الجزء الأول من العراب. في عام 1974 كانت شهية كوبولا مفتوحة، فقرر أن يعيد المشروع للحياة في بداية العام، ذهب دور البطولة لممثل كبير آخر وهو «جيني هاكمان»، وتحول الفيلم أخيرا من فكرة إلى حقيقة.

الفيلم مختلف تماما عما فعله كوبولا في العراب. مواقع تصوير قليلة، رجال غير عنيفين على المستوى البدني، وحبكة نفسية. الحكاية تدور حول «هاري كول» الذي يعمل في مجال التجسس والمراقبة. هاري شخص منضبط للغاية في عمله لدرجة الارتياب. يبدأ الفيلم بتجسسه على حوار لحبيبين في أحد الميادين العامة، شريط الصوت غير مكتمل، يعلو ويخفت وينقطع في بعض الأحيان، حيلة عبقرية من كوبولا ليجعلنا مشاركين لبطل الفيلم في معضلته الأخلاقية. تلك المعضلة التي تتعقد حينما يتسبب تسجيل هذا الحوار في جريمة قتل محتملة. تستمر أحداث الفيلم في التشكل وتستمر الحبكة في الالتواء. يستمر الرعب والارتياب. الجميع مراقب في هذا العالم.

فاز الفيلم في بداية الموسم السينمائي بالسعفة الذهبية من مهرجان «كان»، الجائزة التي يعتبرها غالبية النقاد جائزة المستوى الفني الرفيع، بغض النظر عن المعايير التجارية. ولكن الغريب أن الفيلم حقق لكوبولا نجاحا جماهيريا أيضا. وأصبح اليوم علامة مميزة وسط أفلام السبعينيات. ليس فقط لكونه تحفة فنية على مستوى النص والإخراج. ولكن أيضا لأنه طرح سؤال الخصوصية في عالم مليء بتكنولوجيا مراقبة الاتصالات مبكرا جدا. هذا السؤال الذي يبدو معه الفيلم أكثر رعبا اليوم.


في نهاية حفل الأوسكار في هذه الليلة، وحينما أعلن مقدمو الحفل الأفلام الخمس المرشحة للجائزة الكبرى «أفضل فيلم في العام»، انقسمت الشاشة لخمس مربعات لتتابع ردود فعل المرشحين، ظهر وجه كوبولا في اثنتين منها.

جلس كوبولا لينافس نفسه، بين جزء ثانٍ من ملحمة عائلة كورليوني من ناحية، ودراما نفسية لمتجسس محترف يهوي عزف الساكسفون من ناحية أخرى. وحينما أعلنت النتيجة، قفز كوبولا الذي يظهر في كلا المربعين فرحا. كلاهما فاز في تلك الليلة. كلاهما فائز حتى اليوم.