بالنظر إلى المكانة الدولية الكبيرة لبكين، التي تتمتع بثاني أكبر اقتصاد في العالم وثالث أقوى الجيوش، يتضح مدى القصور والتأخر اللذين تعاني منهما قوتها الناعمة حول العالم، رغم إنفاقها الأموال الكثيرة على الدعاية الخارجية، تقارب 10 مليارات دولار سنويًا وفق بعض التقديرات، وهو رقم يفوق ما تنفقه أي دولة أخرى.

وقد بدأت الصين في إيلاء أهمية كبيرة لهذا الملف، عندما أعلن الرئيس السابق هوجينتاو، أن بناء القوة الناعمة الصينية جزء من الإستراتيجية الوطنية، في تقريره المقدم إلى المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب الشيوعي الحاكم في أكتوبر/ تشرين 2007، وانطلق في الشهر نفسه بث النسختين الفرنسية والإسبانية لتليفزيون الصين المركزي (انطلقت القناة الإنجليزية قبل ذلك بسبع سنوات).


مجزرة أورومتشي

لكننا إن أردنا اختيار حدث معين باعتباره ترك أثرًا فارقًا، فستكون مجزرة أورومتشي في الخامس من يوليو/ تموز 2009، عندما قُتل المئات من المسلمين الإيجور في إقليم تركستان الشرقية بطرق وحشية على أيدي عناصر موالية للحزب الشيوعي، وفوجئ الساسة في بكين بتسرب الفيديوهات الصادمة إلى مواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها على أوسع نطاق حول العالم، وصدور إدانات دولية من منظمة المؤتمر الإسلامي ورئيس الوزراء التركي ومنظمات حقوقية، ونوقش الأمر في أروقة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى صدور تهديدات من تنظيم القاعدة بالثأر والانتقام، وتسليط الإعلام الدولي الأضواء على المجزرة بشكل لم يسبق حدوثه في مجازر أخرى راح ضحيتها عشرات الآلاف من الإيجور وغيرهم.

اقرأ أيضًا: الكتالوج الصيني: طريق طويل لسيادة العالم

الجديد هذه المرة هو تطور وسائل الإعلام والتواصل الحديثة، بالإضافة إلى اندماج الصين في المجتمع الدولي أكثر من أي وقت مضى، ما جعلها تدرك أنه كلما زادت علاقاتها واهتمام العالم بها ظهرت عيوبها بشكل أوضح، فحجبت السلطات جميع مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة كـ فيسبوك وتويتر ويوتيوب، ووجهت مواطنيها لمواقع محلية بديلة، وشددت الرقابة على الإنترنت، وانطلق بث تليفزيون الصين المركزي باللغة العربية، بعد 20 يومًا فقط من الحادثة، في محاولة لموازنة الدعاية السلبية عنها بين العرب الذين تستورد منهم معظم احتياجاتها النفطية، ويشكلون سوقًا مهمة لمنتجاتها.

وامتلأ الفضاء الإلكتروني بمواد دعائية مقروءة ومرئية أنتجها موظفو الحزب الشيوعي، تتحدث عن حالة التعايش والانسجام التي تعيشها الأقليات الدينية في الصين، والرعاية والاحترام اللذين تتلقاهما من الدولة، في محاولة لعكس الصورة السلبية التي تكونت بالخارج.


وزارة الحقيقة

تطورت الآلة الدعائية الصينية بشكل كبير، تحت إشراف مكتب معلومات مجلس الدولة (SCIO) الذي يرأسه وزير مكتب الاعلام بالمجلس، والذي يشبه عمله عمل وزارة الحقيقة في رواية جورج أورويل الشهيرة «1984» على حد تشبيه البعض، فوظيفته هي ممارسة الرقابة على جميع المواد الإعلامية المنشورة داخل البلاد وإنتاج المواد الإعلامية الدعائية، والترويج للروايات التاريخية والمسميات الجغرافية التي يعتمدها الحزب الشيوعي، وعقد الفعاليات والمؤتمرات الصحفية وتعيين المتحدثين الإعلاميين، وفي نهاية كل عام يعقد مؤتمرًا لتحديد الخطوط العامة للدعاية الخارجية للعام المقبل، وإستراتيجية القوة الناعمة.

كما يقوم قسم «الجبهة الموحدة» بالحزب الشيوعي، الذي تترأسه سون تشون لان، عضو المكتب السياسي للحزب، بمهمة توسيع نفوذ الحزب بين غير المنتمين إليه، ويرتكز دوره على وظيفتين أساسيتين؛ الأولى هي ضمان ولاء الصينيين الذين يعيشون بالخارج في أكثر من 180 دولة، والثانية هي التواصل مع رجال الدين المسلمين والمسيحيين والبوذيين وغيرهم.

وتشرف الجبهة الموحدة على مبادرة «طريق الحرير الروحي» بالتنسيق مع الدول السوفييتية السابقة لدعم صعود نموذج من التدين الإسلامي منزوع الهوية يخضع للسلطات الحاكمة في كل دولة تحت شعار مكافحة الإرهاب وإبراز سماحة الإسلام. في الشهر الماضي نجحوا في إبرام اتفاق تاريخي مع الفاتيكان، انتزعوا به موافقته على اعتماد الموظفين الذين عينهم الحزب الشيوعي، كممثلين للبابا ورؤساء دينيين للكاثوليك الصينيين البالغ عددهم 12 مليون نسمة.

واضطر البابا فرانسيس للاعتراف بسبعة موظفين صينيين كأساقفة شرعيين، لإنهاء الانقسام الذي عانت منه الطائفة على مدار 67 عامًا، بين كنيسة وطنية تخضع لبكين وكنيسة سرية لا تعترف بغير سلطة البابا، كما أراد البابا من خلال هذا الاتفاق إيقاف الحملة التي شنتها الصين على المسيحيين خلال الأشهر الماضية والتي شملت هدم عدد من الكنائس وإغلاق دور حضانة تابعة لها، ومصادرة المنشورات الدينية.


المحتوى الفارغ

مع ضخامتها واتساع نطاق عملها، إلا أن الآلة الدعائية الصينية تتسم بأنها دفاعية الطابع؛ تستهدف الرد على اتهامات الخصوم وتهدئة المخاوف من الصعود الاقتصادي والعسكري، ونشر وجهات النظر الحكومية حيال الملفات الخلافية المتنوعة، دون أن تتبنى الترويج لأيديولوجية أو نمط حياة معين.

وعلى الرغم من تبني النظام للمنهج الشيوعي نظريًا، إلا أنه مع بداية حقبة الإصلاح والانفتاح في عام 1978، تخلى عن النزعة الأيديولوجية، واتخذ نهجًا براجماتيًا لا يبحث إلا عن المصالح الاقتصادية، وأصبح هذا التوجه سمة عامة في البلاد. وللمفارقة فإن الدولة تحولت لأكبر بلد رأسمالي في العالم بعدما تخلت عن محاولات نشر النسخة الصينية للشيوعية حول العالم، والمعروفة بـ «الماوية»، واستبدلتها بنسخة أخرى لم تأخذ من الشيوعية إلا القبضة الحديدية للحزب الحاكم، ومعاداة الأديان.

اقرأ أيضًا: نظام عالمي جديد تبنيه الصين في الظل: تعرف إلى أركانه

ولم تحل محل الماوية بنية قيمية جديدة في المجتمع الصيني، لذا فقد لجأ النظام إلى الكونفوشيوسية القديمة كواجهة ثقافية للبلاد، لاسيما وأنها مثلت الوعاء الحاوي للتراث الصيني لآلاف السنين، بالنظر لأن أدبيات كونفوشيوس كانت تجميعًا لآراء سابقيه، ومثلت المرجع النظري للعصور التالية له، لكن المفارقة أيضًا أن هذا المذهب القديم يتصادم بشدة مع الحكم القمعي، ويرفض تسلط الحاكم على الرعية ولا يعادي الأديان، وبالتالي لا يعدو استحضار الكونفوشيوسية سوى أنه نوع من أنواع الدعاية التي لا تمثل الواقع، بل محاولة للإيهام بعراقة المنتج الثقافي المطروح عبر صبغه بصبغة ذات عمق تاريخي وفلسفي، ولذلك يعد مفهوم «الحلم الصيني» مبهمًا من حيث محتواه الثقافي بالنسبة حتى للصينيين أنفسهم.

يدرك القادة الصينيون وجود هذا الفراغ الروحي ويحاولون ملأه، بتعميق الولاء للحزب الشيوعي، والرئيس شي، ومنع انتشار أي مذاهب روحية بين الصينيين، لدرجة أن أتباع الـ «فالون غونغ» يواجهون اضطهادًا شديدًا داخل البلاد، وهي عبارة عن مجموعة ظهرت في التسعينيات، يمارس أتباعها خمسة من تمارين اليوجا البوذية، ويشربون الشاي الأخضر، وليس لهم أي موقف سياسي، لكن السلطات حظرتها منذ عام 1999، بعدما وصل عدد ممارسيها إلى 70 مليون شخص، تم قمعهم بكل عنف،ولقي الآلاف منهم مصرعهم تحت التعذيب الوحشي الذي لاقوه على أيدي أجهزة الأمن الصينية، وما يزال ممارسوها يعملون بسرية تامة حتى الآن، ويُطاردون كالمجرمين، إذ رأى الحزب الشيوعي فيهم تهديدًا وجوديًا له نظرًا لعلاقة تلك التمارين بالديانة البوذية، التي تتناقض مع المذهب الإلحادي للدولة، لاسيما مع تحقيقهم لشعبية طاغية بين المواطنين تنافس شعبية الحزب.


كونفوشيوس

تمثل معاهد كونفوشيوس المنتشرة حول العالم، الجبهات الأمامية في معركة القوة الناعمة التي تخوضها الصين، إذ ينتشر 530 معهدًا و1113 فصلاً بالمدارس الابتدائية والثانوية في 149 دولة ومنطقة في أنحاء العالم، بإجمالي عدد طلاب يتجاوز التسعة ملايين يدرسون لغة الصين، ويمثلون الشريحة الأكثر تأثرًا بدعايتها، ويعمل عدد منهم بعد تخرجه في الترجمة من وإلى لغاتهم الأصلية.

وتقدم تلك المعاهد منحًا دراسية للسفر وتعلم اللغة والثقافة في الصين على نفقة الحكومة، ويتجاوز عدد الطلبة الأجانب الذين يدرسون في جامعاتها حوالي 300 ألف، والعدد مرشح للزيادة، وقد أثار انتشار تلك المعاهد مخاوف غربية، لما تمثله من امتداد لنفوذ بكين داخل بلادهم، وفي حين أغلقت السويد معهد كونفوشيوس بها، فإن دولًا أخرى ما زالت تبحث اتخاذ مثل هذه الخطوة.


الحرب السينمائية

وسط التنافس المحموم الذي تخوضه بكين مع القوى الدولية الأخرى، تبرز إحدى نقاط ضعفها. ففي سياق المقارنة مع الدول الأخرى في القوة والنفوذ، تبدو صناعة السينما لديها متأخرة جدًا، بل إن الصين في هذا المجال مفعولٌ به أكثر من كونها فاعلًا، وليس أدل على ذلك من أن فيلمًا أنتجته منافستها اللدودة، الهند، وعُرض بالصين العام الماضي، يدعى «دانجال»، تصدر شبّاك التذاكر هناك، وحطم أرقامًا قياسية في عدد مشاهديه، بل امتد الانبهار إلى الرئيس شي جين بينغ، الذي قال لرئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، على هامش اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون العام الماضي، إنه شاهد الفيلم وأُعجب به.

تسبب هذا الأمر في فتح نقاش داخل البلاد، وتساؤلات حول أسباب عجزهم عن إنتاج مثل هذا العمل السينمائي، الذي دمر في ساعتين فقط، الصورة السلبية التي احتفظ بها بعض الصينيين لسنين طويلة عن جارتهم التي دأبت وسائل إعلامهم على وصمها بالفوضى والتخلف.

وقد وجهت بكين في الآونة الأخيرة استثمارات ضخمة لصناعة السينما بعدما أدركت أهميتها وعمق تأثيرها، وخطت خطوات واسعة في منافسة المنتجات الفنية الأمريكية والهندية واليابانية، مستخدمة نفس أسلوبها في النهوض الاقتصادي، وهو مشاركة الخصم وفقًا لمعادلة الربح المتبادل، فتعاون المنتجون الصينيون مع هوليود في إنتاج أفلام مشتركة، واشتروا إستوديوهات أمريكية باهظة الثمن، كما دخلوا على الخط في صناعة «الإنمي» التي هيمنت عليها اليابان لفترة طويلة، حتى باتت هذه الصناعة تعاني في بلدها الأصلي.

اقرأ أيضًا: إ ستراتيجية شرائح اللحم: كيف تحدى الصينيون الجغرافيا؟

وفي خطوة تعد إيذانًا بدخول بكين ميدان المنافسة رسميًا، دشنت مدينة سينما ضخمة في إبريل/ نيسان الماضي على غرار هوليود الأمريكية وبوليود الهندية، تزيد مساحتها عن مساحة 500 ملعب كرة قدم، بلغت كلفة بنائها حوالي 7.86 مليار دولار، وتعد أكبر استثمار في العالم في مجال السينما والتلفزيون.

وبالنظر لأنها تمتلك أكبر سوق للأفلام في العالم، وبالتالي تحتل المرتبة الأولى في قائمة إيرادات الأفلام، جذبت الصين الأمريكيين للعمل بها بشرط الاستعانة بمواطنيها في العمل، كي تنتقل لهم الخبرة بمرور الوقت. لكن الأعمال السينمائية تخضع لرقابة صارمة من قبل الدولة، لا تقتصر على حذف أو منع ما لا توافق عليه، بل أحيانًا يتم إضافة بعض المشاهد، التي لا توجد في النسخة الأصلية للفيلم.

ويشكل الإشراف الحكومي الصارم على المحتوى عائقًا أمام الإبداع السينمائي، فقد شهد شهر يوليو/ تموز الماضي إصدار فيلم «أسورا» الذي يعد الأكثر تكلفة في تاريخ السينما الصينية، والذي انهالت عليه الإشادات من جانب وسائل الإعلام الحكومية، باعتباره «الأكثر ترقبًا من جانب الجماهير»، لكن ما إن بدأ عرض الفيلم حتى سحبته السلطات مرة أخرى بسبب عدم الإقبال عليه، ما يعكس الفجوة الكبيرة بين التعليمات الحكومية والمزاج الجماهيري حتى داخل الصين نفسها.


القوة غير الناعمة

رغم الجهود الهائلة التي تبذلها بكين في هذا الصدد، إلا أنها لا تزال أبعد ما تكون عن القوة الناعمة بمفهومها الذي نعرفه، الذي صاغه جوزيف ناي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، مطلع التسعينيات، ويعني القدرة على الجذب دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع؛ أي أن تجعل الآخرين يفعلون ما تريده أنت دون الحاجة إلى أن ترغمهم على فعله.

فالإبداع البشري الحر هو أساس القوة الناعمة، وهو الذي يدفع الآخرين للانبهار ومحاكاة نموذج معين، كما في حالة الولايات المتحدة حين أبهرت العالم بـ الحلم الأمريكي الذي اشتمل على معاني الحرية والمساواة والحياة الغربية بما تحمله من مباهج، مثلت إلهامًا لعشرات الملايين من البشر، عبروا سواحل الأطلسي والهادي، ليصلوا إلى البر الأمريكي، ويبدأوا حياة جديدة ضمن النموذج الذي حلموا به.

لكن في المقابل يمثل النموذج الصيني أحد أشد النماذج تقييدًا لحرية البشر، واستخدامًا للتكنولوجيا في خدمة القمع، وصل لدرجة ابتكار تقنيات وأجهزة حديثة من أجل التحكم الكامل في سير حياة البشر وممارسة الرقابة على ما تخفيه الصدور، الأمر الذي يذهب بأي جاذبية مفترضة لنموذج لا يمثل إلهامًا إلا بالنسبة للحكام السلطويين الذين يرون في القبضة الحديدية للحزب الشيوعي مثالًا يُحتذى به، ولو حتى بدون تحقيق إصلاحاته الاقتصادية.