هناك شبكات فساد مترابطة استهدفت تخريب الاقتصاد القومي، من خلال سرقة أموال الشعب، وكان لا بد من تدخل رئيس الجمهورية، بحكم مسئوليته الدستورية عن الاقتصاد الكلي الذي شهد استهدافًا مباشرًا لضرب استقرار البلاد وزعزعة أمنها.
الرئيس السوداني عمر البشير، أبريل/ نيسان 2018.

مع كل أزمة اقتصادية يقرر الرئيس عمر البشير شن حملة حكومية ضد الفساد المستشري في السودان. بدأت الحملة هذه المرة مطلع فبراير/ شباط الماضي، تحت عنوان «الحرب على القطط السمان»، وما زالت مستمرة حتى اليوم، لكنها لم تُؤتِ أكُلها بعد، إذ لا يزال الاقتصاد السوداني الهش، وبالتبعية المواطنون، يعانون بشكل لم يسبق له مثيل.


ليست الحملة الأولى

يعتبر السودان أحد أكثر دول العالم فسادًا، إذ يقبع في المرتبة 175 من أصل 180 دولة شملها «مؤشر الفساد 2017» المُعد من قبل منظمة الشفافية الدولية. هذه المرتبة المتدنية ليست خرقًا للمألوف، بل تتماهى معه تمامًا، ففي عام 2016 حل السودان في المرتبة 170 بين 176 دولة، وفي العام 2015 كان في المرتبة 165 بين 167 دولة، بل في 2010 كان السودان في المرتبة 172 من أصل 178 دولة شملها المؤشر في ذلك العام.

وقالت منظمة «الشفافية السودانية»، في تقرير لها مطلع العام 2017، إن دراساتها للبيانات الحكومية والإحصاءات الرسمية وواقع الفساد في السودان تؤكد أن الخسائر من جراء الفساد في البلاد فاقت 18 مليار دولار سنويًا. وفي تقرير صدر عام 2015، عن المراجع العام – وهو الشخص المسئول عن مراجعة حسابات الدولة – فإن نسبة الفساد في دواوين الدولة ارتفعت إلى 300%.

تدرك الحكومة السودانية حقيقة أزمة الفساد بوضوح، و تعترف به، لكنها لا تفعل الكثير لمواجهتها، إذ تكتفي فقط بشن حملات من وقت لآخر دون وجود استراتيجية كاملة تُحدث نتائج فارقة. فعلى سبيل المثال، أعلنت رئاسة الجمهورية في السودان عام 2012 عن إنشاء آلية لمكافحة الفساد في أجهزة الدولة، لكن الهيئة الجديدة لم تقدم الكثير، فأُلغيت وأقيل رئيسها بشكل مفاجئ بعد عام من تعيينه.

وفي منتصف العام 2015 أعلن الرئيس البشير في أول خطاب له عقب أدائه اليمين الدستورية بعد إعادة انتخابه رئيسًا للسودان تشكيل هيئة عليا للشفافية ومكافحة الفساد بصلاحيات واسعة تتبع له مباشرة، لكن ثلاثة أعوام مرت على الوعد الرئاسي دون أن ترى الهيئة النور.


حملة القطط السمان

يواجه السودان أزمة اقتصادية حادة منذ مطلع العام الجاري، إذ انهارت العملة الوطنية وأصبح كل 38 جنيهًا سودانيًّا = دولارًا، كما ارتفعت معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، ووصلت في شهر أبريل/ نيسان الماضي إلى 57.65% على أساس سنوي، وهي مستويات لم يصل إليها الاقتصاد السوداني حتى في ظل العقوبات الأمريكية.

اقرأ أيضًا:بعد عشرين عامًا: السودان يعود إلى الحظيرة الأمريكية

واتخذت حكومة الخرطوم العديد من الإجراءات من أجل تقليص عجز موازنة، مثل رفع الدعم عن الخبز، وهو ما أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة في البلاد، مطلع العام الجاري. وكذلك اتخذ قرار مطلع مايو/ أيار الماضي،بإغلاق 13 سفارة بعدما عجزت الحكومة عن دفع رواتب دبلوماسييها على مدى 7 أشهر.

دفعت هذه الأوضاع سلطات الخرطوم إلى اتخاذ إجراء اعتادت عليه مع كل أزمة اقتصادية، وهو القيام بحملة ضد الفساد، غير أن الحملة هذه المرة كانت أشد من سابقاتها، إذ بدأت بتوقيف مدير إدارة الأمن السياسي بجهاز الأمن والمخابرات، اللواء عبد الغفار الشريف، بتهم الفساد والمضاربة في سوق الدولار، وامتدت لتشمل اعتقال 4 من كبار العاملين في القطاع المصرفي، بينهم مدير عام بنك فيصل الإسلامي الباقر أحمد النوري.

وفي مجال شركات النفط تم توقيف ثلاثة من مديري الشركات؛ هم حمد بحيري، وغاندي معتصم، وأحمد أبوبكر. كما تم القبض على عدد كبير من رجال الأعمال، تم الإفراج عن بعضهم بعدها، وأحيل الباقون إلى المحاكمة.

وقام السودان ب تأسيس محكمة جنايات تختص بمكافحة الفساد ومخالفات المال العام، من أجل النظر في الدعاوى الخاصة بقضايا الفساد واستغلال النفوذ والتعدي على المال العام وتخريب الاقتصاد الوطني. و بدأت المحكمة الجديدة بالفعل مباشرة أعمالها بالنظر في 60 قضية أحيلت إليها على عجل.


هل ينجح السودان في القضاء على الفساد؟

يستدعي هذا السؤال النظر في أسباب فشل حملات السودان السابقة في تقليص الفساد. كما ذكرنا أعلاه فإن الرئيس البشير ألغى آلية مكافحة الفساد في أجهزة الدولة وأقال رئيسها عام 2013، أي بعد عام واحد فقط من قراره بإنشائها، دون الإعلان عن الأسباب، ما دفع البعض إلى القول بأن تحقيقات الفساد مست أشخاصًا لم يكن من المفترض أن تقترب منهم.

وكما ذكرنا أعلاه أيضًا، فإن البشير تعهد، في بداية ولايته الرئاسية الجديدة عام 2015، بإنشاء هيئة عليا للشفافية ومكافحة الفساد بصلاحيات واسعة تتبع له مباشرة، لكن ما لم نذكره أن البرلمان السوداني أقر قانون الهيئة مطلع العام 2016،ورفض الرئيس البشير التصديق عليه وأعاده إلى البرلمان لمناقشته مرة أخرى، بسبب وجود مادة في القانون تعطي الهيئة الحق في متابعة أي مسئول متهم بالفساد حتى لو كان يتمتع بحصانة محددة، ما يعني أن البشير نفسه يقع تحت طائلتها.

وقام البرلمان بتعديل القانون وتقييد «مادة الحصانة» المثيرة للجدل، بإضافة بندين في المادة ينصان على ضرورة إخطار الجهة التي يتبع المطلوب التحقيق معه لإعلانه للمثول أمام المفوضية، وإذا تخلف الشخص المطلوب حضوره أمام المفوضية لمدة شهر من تاريخ الإخطار الكتابي تقوم المفوضية بإحالة ما أسفر عنه التحقيق للجهة المختصة، لكن رغم ذلك لم يصدق الرئيس البشير على القانون، ولم تشكل الهيئة العليا للشفافية حتى الآن.

اقرأ أيضًا:الأزمة الخليجية: كيف أضر الحياد بمصالح السودان الاقتصادية؟

عندما يتحدث الرئيس السوداني عن الفساد يُخرج نفسه من المعادلة دون أن يشعر بأي مسئولية، كأنه رئيس أمسك بالحكم قبل أشهر وفوجئ بالوضع، وليس رئيسًا يجلس على كرسي الحكم منذ 25 عامًا.

يتكلم البشير عن مافيات وشبكات فساد مترابطة ومتشعبة العلاقات، وكأنها لم تنشأ وتنمو وتتوغل تحت سمع وبصر سلطاته. يتعهد بالقضاء على الفساد وسحق المفسدين، وكأن عقدين ونصفًا من الزمن لم يكفياه لتحقيق خططه لإنهاء الفساد.

تشير هذه القرائن بقوة إلى غياب الإرادة السياسية الجادة لمكافحة الفساد، وإلى استفادة النظام السياسي القائم ومنتفعيه من الواقع الراهن. ورغم أن حملة «القطط السمان» تبدو مختلفة عن سابقاتها من حيث أعداد الموقوفين على ذمتها ومراكزهم الاجتماعية وكيفية التعامل معهم، فإنها إذا وضعت في إطار المشهد السوداني الراهن، من حيث رغبة الحكومة في امتصاص الغضب الشعبي الناتج عن التدهور الاقتصادي، فسنجد أن الحملة على الأرجح ستنتهي عقب هدوء الأوضاع، وأن الفساد سيواصل أكل أموال الشعب السوداني كما اعتاد لعقود.