لم أكتب شيئًا منذ ما يقارب الشهر، قد يبدو الأمر كمشكلة تافهة في بلد قد لا يجد فيها غالبية البشر سريرًا خاويًا بأحد أقسام العناية المركزة إذا ما كانوا مهددين بالموت.

سرير عناية مركزة بالطبع سيكون أكثر أهمية من مقال في باب «الفن والأدب»، ولكننا -نحن البشر- نفكر بشكل مغاير، نبحث عن ما ننجزه فيشغلنا عن الحياة طالما نحن فيها.

كذا يصبح هذا المقال معضلتي الصغيرة، أفكر في حلها، تؤرقني وتنغص علي حياتي، تشعرني بالمعاناة، أجلس لساعات لأفكر فيها، قد أنجح ويقرأ مقالي بضع آلاف، قد أنجز مقالاً مملاً لا يقرأه سوى من يراجعه لغويًا وفنيًا في هذا الموقع، قد يخرج مقالاً رديئًا، وربما قد يراه البعض تجريبيًا، ولكنني لن أموت إن لم أنجزه على أي حال.

شاهدت مؤخرًا خطابًا تحفيزيًا على موقع يوتيوب واقتنعت بما فيه. يتحدث صانع هذا المقطع ويضرب الأمثلة على أن الكتابة حرفة يلزمها تدريب وممارسة، هكذا يتحول الكاتب من هاوٍ إلى محترف.

يحضر «نجيب محفوظ» تلقائيًا عند ذكر هذه الكلمات. كلنا نريد أن نكتب يوميًا كـ«محفوظ». كلنا نريد يومًا منظمًا ومرتبًا كأيامه. كلنا نريد مقهى نظيفًا وهادئًا مرسومًا بألوان السيبيا كمقهاه، ولكننا في زمن غير الزمن، ونحن على أي حال لسنا هو، ولن نكون.

تعودت على الكتابة في كل وقت وبأي شكل، في المقهى وسط ضجيج احتفال الجماهير بأهداف «محمد صلاح»، في الأتوبيس المتجه لجنوب سيناء مرورًا بعدد لا نهائي من الكمائن الأمنية، في المترو واقفًا، في أوقات نصف النوم التي تتخلل نوباتجيات الليل الطويلة في مستشفى الخانكة للصحة النفسية حيث اعتدت العمل، وأحيانًا أثناء الأكل، لا يبدو روتينًا منظمًا ومنمقًا كما حلمت للأسف.

أحببت فتاة مؤخرًا، هذا ما أحاول الهرب من كتابته منذ بداية المقال، أريد الكتابة عن هذا بشدة ولكننا تربينا أن تصريح الرجل بمشاعره ضعف، وأنا أحاول قدر الإمكان ألا أبدو ضعيفًا، أو قُل أحاول قدر الإمكان ألا أبدو حبيبًا، على الأقل ليس هنا، ليس في مصر.

أحاول أيضًا ألا يتم تصنيفي تحت خانة من يكتبون كلامًا رومانسيًا، خصوصًا أننا في بلد يحكمه «فيلد مارشال» لم يحارب قط، ولكنه يهدد الجميع حاليًا بأنه «مش بتاع كلام».

أصدقائي في مركز تدريب المجندين الجدد حاليًا، كان من المفترض أن أكون برفقتهم، لكني متأخر دائمًا. وأنا سعيد بهذا التأخر هذه المرة، ساعد هذا التأخر على التقاط بعض الأنفاس وتسارع الأخرى، وها أنا في النهاية أكتب قبل الترحيل للانضمام لهم مجبرًا على أي حال.

يبدو فعل الكتابة في هذا المقال شخصيًا، ذاتيًا، لكنه عام جدًا في حقيقة الأمر، أنا أكتب ككثيرين من الشباب والشابات الذين ظهروا أمامك فجأة، وكما يبدو من العدم على صفحات ومواقع غالبيتها محجوب في مصر الآن، نكتب لأننا نحب، لأننا نبحث عن ما يشغلنا طالما كنا على قيد الحياة، نكتب لأننا نحاول أن نكون كتابًا محترفين بالتدريب والممارسة، وبالطبع نكتب لأننا نحتاج لبعض المال.

قد يكون الحديث عن المال عيبًا في مصر أيضًا، ولكنه ليس كالتصريح بالحب على أي حال، ولأنني قد فعلت الأولى فلا مانع من الثانية أيضًا. نعم، نحتاج للمال، أتذكر هنا كلمات الشاعر المصري الراحل «أمل دنقل» لحبيبته «عبلة الرويني» حينما طالبته بتنحية الحديث عن السياسة والمجتمع عن لقاءاتهما الشخصية:

إنني أتكلم عن صميم علاقة الحب بك إنني أتكلم عن ثمن كوب الشاي الذي لا بد أن أدعوك إليه

اقرأ أيضًا:بديلًا عن الانتحار: ملامسة روح «أمل دنقل» في ذكراه

لازلنا في نفس المربع، يكتب هؤلاء الشباب الذي أتشرف بأنني واحد منهم حبًا للكتابة، رغبةً في تقديم محتوى ممتع للقارئ، وأيضًا طلبًا للقليل من المال، الذي ربما سيمكنهم من دفع ثمن كوب شاي حينما يلتقون بأحبتهم.

مقال في هذا الموقع سيكفي لعشاء حبيبين في مطعم متوسط المستوى، مقالان سيوفران هدية من أم شابة لمولودها الأول، ثلاثة مقالات ستشجع زوجًا جديدًا على الاتصال بالسباك لإصلاح ماسورة المطبخ، عشرة مقالات أو أكثر ربما ستمنحني الثقة الكافية لمحاولة شراء معطف شتوي للعام القادم!.