جاءَ إلى بيتِهِ فما قًبِلهُ أهلُ بيتِهِ.
إنجيل يوحنا 11: 1

بهذه العبارة من إنجيل يوحنا يفتتح سنان أنطون روايته «يا مريم»والتي هي والعنوان يشكلان عتبات النص الأولى. «يا مريم»رواية تتناول حياة إحدى الأقليات بالعراق، هي المسيحيين العراقيين كما يتضح من العنوان والاقتباس من كتاب مقدس.

وفي العنوان دعاء ونداء استغاثة، وفي الاقتباس شعور مرير بالظلم والخذلان، وهي عتبات نجتاز بها لعالم أحسن الكاتب اختيار التدليل عليه بعناية بدءًا من هذه التفاصيل الأولى والتي ستستمر لآخر كلمات الرواية.

تقع الرواية المقسمة لخمسة فصول غير متساوية، في 159 صفحة من القطع المتوسط. تتناول حياة شخصيتين تجمعهما العديد من العوامل وتفرقهما تناقضات جادة، يجمعهما الوطن والديانة وصداقة عائلية، وتفرقهما الخيارات والرؤى.

فـ«يوسف»،الرجل الذي يعيش خريف أيامه، يرى العراق والحياة والماضي وكذلك المستقبل، بشكل أكثر تسامحًا وهدوءًا عن «مها»الشابة الجامعية والزوجة الحديثة، التي تجرعت مرارات الفقد واحدة تلو الأخرى منذ بدأت تعي الحياة.


ألسنة السرد

أوضاع البلد المرتبكة بعد احتلال استمر سنوات ونزعات طائفية وتطرف في الأفكار والأفعال، كل ذلك اضطر مهاللنزول ضيفة في بيت يوسف لبعض الوقت، من خلال علاقة الجوار والضيافة هذه تتخلق الحالة التي تكشف تناقض الشخصيات. يلعب كل منهما دور الراوي لبعض الوقت، ليأخذنا في عالمه ومأساته ويعرض وجهة نظره التي أسفرت عن شجار ما، منذ الأسطر الأولى في الرواية ما بين الشخصيتين.

اقرأ أيضًا: فهرس «سنان أنطون»: قراءة جديدة للمأساة

يوسف، الشخصية المحورية الأولى والتي تبدأ بالحكي وتأخذ منه نصيبًا أكبر، يحكي فصوله تحت ثلاثة عناوين، اثنين منها تحت نفس العنوان «أن تعيش في الماضي»، وواحد بعنوان «صور». تتجلى حتى من عناوين الفصول شخصية الرجل العائش في ذكريات طفولته وشبابه، ذلك العالم المسالم، حيث لم تظهر بعد مفاهيم العنف الطائفي، وعزل أفراد المجتمع في دوائر ضيقة بناء على ديانتهم وعقائدهم.

يبدأ بالحكي عن أخته الكبرى «حِنة»، تلك القديسة على هيئة أخت، ويتطرق لتفاصيل حياتهما معًا منذ الطفولة وحتى وفاتها منذ سنوات قريبة. كم كان يحب يوسف حنة رغم كل ما بينهما من اختلاف في الرأي. يذهب يوسف بعدها (كراوٍ)في سرد شيق حميم عن شجرة العائلة، من خلال مجموعات من الصور ما زالت تُزين جدران البيت الذي يعيش فيه. يحكي عن شباب العائلة واحدًا تلو الآخر، كيف بدأ كل منهم وكيف انتهى، كثيرون لاذوا بالفرار خارج النقطة الضيقة في أوضاع العراق الحرجة.

ينقل يوسف شكل الحياة بكافة التفاصيل من خلال حيلة الصور تلك، فيحكي عن طبيعة تلك الفترات الزمنية، المدن والبلدات العراقية، تطور الزي، شكل البيوت، تطور التصوير نفسه من وقت إلى وقت ومن جيل إلى جيل.

كل تلك الصور لكل معارفه هي عالم يوسف الذي يعيش فيه بماض كان، وهو ما تستنكره مهافي الجزء الخاص بها من الحكي كراوية،فهي ترى العراق من زاوية مغايرة تمامًا، هذه الشابة الجامعية التي لم تصل لعقدها الثالث بعد، بدأت تسمع في طفولتها التي عاشتها في التسعينات، عن مصطلحات جديدة عليها آن ذاك، مثل «اختطاف»، «فدية»، «قتل».

تفتح وعي مهافي عراق غير عراق يوسف، الذي عاش عراق الزمن الجميل كما كان يراه، في الخمسينات والستينات. فبرغم الأوضاع المتوترة سياسيًا على مر التاريخ، فإن أصحاب الماضي لديهم بعض الذكريات الهانئة ليعيشوا عليها، هذا ما لم تجده الأجيال اللاحقة في أي وقت مر بها.

«الأم الحزينة» هوعنوان الفصل الوحيد الذي تحكيه مهاكراوية. إسقاط واضح على مأساتها، فمها التي بدأ وعيها يتفتح على العنف والقتل في عراق ما قبل الاحتلال، ازدادت حياتها ترديًا بعدما أصبح البلد يضرب به المثل في الترهيب والتخويف، تشتتت عائلتها تمامًا واضطرت أسرتها لترك البيت والحي الذي أصبح غير آمن على المسيحيين.

فقدت مها جنينها في أحد التفجيرات الإرهابية التي ضربت شارعها وتهدمت أجزاء من بيتها وهي داخله، فلم تمت ولكن مات جنينها، وكذلك الشعور بالأمان داخلها، لم تعد تأمن على نفسها وأحبائها في هذا الوطن.

تتشاجر مع يوسف المستمسك بالأمل، يوسف الذي رفض ترك بيته الذي بناه بنفسه وشهد كل ركن فيه آمال وآلام العائلة. «إنت عيش بالماضي عمو»تقولها مهاليوسف في أول سطور الرواية كاتهام فظيع بالحلم والرومانسية، التي لا يُعقل وجودها في هكذا زمان ومكان.


فضاءات السرد

يأخذنا السرد في فضاءات زمانية متباينة، ما بين عراق الخمسينات والسيتينات وما قبلها أحيانًا من خلال ذكريات يوسفالقديمة وحكاياته مع صديقه القديم أو مونولوجاته الداخلية. ويتقدم بنا للتسعينات حيث طفولة مهاوذكرياتها أيضًا.

ثم يستكمل حتى سقوط بغداد تحت الاحتلال وصولًا للعام 2010 تحديدًا، حيث تقع الحادثة الأخيرة والأهم في أحداث الرواية، ذلك الفضاء الزماني المتذبذب ما بين ماض له بريق ما، نرى انعكاساته بوضوح في سرد يوسف، وحاضر قريب أو حتى لحظي بحسب زمن الأحداث، حاضر مناقض شكلًا وشعورًا من خلال سرد مها، يقوض ذلك الحاضر علاقة مهابالوطن بتلك الفكرة الشاعرية في هذا الواقع المرعب.

وعلى مستوى الفضاء المكاني فقد كان شديد الثراء والتنقل المتباين أيضًا، ما بين البيوت العتيقة الآمنة في العراق القديم، والحدائق والنخل ذي النصيب الطويل من السرد. أماكن لشرب الندامى القدام قبل زمن الصحوة الإيمانية، بفنادق وحانات لم يعد لها وجود، وبيوت قلقة مضطربة لا تشعر بالاستقرار، مهددة دومًا بالإرهاب، تُغلق مرات بالإكراه ويُطرد ساكنوها، وتتهدم فوق رءوسهم مرات أخرى.

حتى الكنائس الحاضرة بقوة داخل السرد، هي الأخرى مرات كانت بيوتًا دينية آمنة محصنة، يأوي إليها الناس طلبًا للرحمة والسلام، وتتحول أحيانًا في السرد لأماكن مهددة بل ومقتحَمَة يتم تفجيرها وتهديمها على رءوس المصلين، فالأماكن هنا تعكس الحالات الشعورية لكل من يوسف ومها، فالعراق الوطن والتاريخ والبيوت الهادئة المطمئنة، منعكس في رواية يوسف طيلة الوقت، بينما العراق الخراب والدمار والأطلال يتجلى في رواية مها طيلة مدة سردها حتى آخر صفحات الرواية.

الشخصيات الرئيسية بالإضافة ليوسف ومها، نرى حنةالحاضرة من خلال يوسف، التي تخلت عن حلمها بالرهبنة لتكون أمًا بديلة لأخواتها بعد رحيل الأم، فتعيش راهبة في بيتها وتحول حجرتها لكنيسة صغيرة كل تفاصيلها متعلقة بروحها لا جسدها.

هناك أيضًا سعدونصديق يوسف القديم، الذي يعرض من خلال علاقته بيوسف شكل العلاقات الإنسانية التي اختلفت ما بين الأمس واليوم، سعدون رفيق –الشراب- نديم يوسف في الحانة القديمة، المسلم الذي حضر إلى عزاء حنةفجلس يقرأ الفاتحة على روحها. علاقة إنسانية عميقة لم تكن فيها تساؤلات حول المعتقدات والأفكار الخاصة، بل إن كل ذلك لم يكن يشكل أي فوارق أو أسباب تنافر أو نزاع.

هناك كذلك نجاة، خطيبة يوسف وحبه الأول، الذي لم يتخيل أن يستبدله يومًا رغم ضياعه منذ سنوات طويلة، لأسباب عائلية لا دخل له أو لها فيها. وهناك دلال حبه الأخير الذي عوضه كثيرًا في البداية ثم ما لبث أن لحق بسابقه فخسر حبيبته لاختلاف الديانة رغم كل الحب الذي كان يكنه أحدهما للآخر. وهناك زوج مها لؤيذلك الشاب المحب المتفهم الداعم لمها في أزمتها النفسية التي تزداد تعقيدًا مع تعقيدات الوضع في العراق.


اللغة بين الشعر والتوثيق

اختار المصور زاوية مناسبة في باحة البيت فيها ما يكفي من الضوء، وطلب منهم أن يعلقوا قطعة قماش بيضاء كبيرة على الحائط في حوش البيت لتقف العائلة أمامها كي تلتقط الصورة. بعد أن استحصلت الموافقة وبعد أن انتهى المصور من التقاط صورة لعائلة يوحنا جاء دور عائلة كوركيس.

جاءت لغة الرواية شاعرية شكلًا توثيقية مضمونًا، وهي من أهم العناصر التي استوقفتني طويلًا أمامها، فسنان أنطون الشاعر والمترجم أيضًا للشعر، انطبعت لغته داخل الرواية بشاعرية عميقة متدفقة. فيقول مثلًا:

لمحت سعف نخلتي البيت من بعيد وهما تنتصبان في حديقته الخلفية فبدتا كأنهما تحرسانه. أنا أيضًا أحرس البيت وذكرياته. البيت الذي هو أكثر من بيت. فمثلما ليست النخلة محض نخلة، بل حياة بأكملها، متشابكة مع الأرض التي تحتها وكل ما فيها، ومع السماء التي حولها والهواء الذي تتنفسه بكل ما فيه. فالبيت أيضًا ليس محض طابوق وإسمنت وصبغ، بل عمر بأكمله.

تشعر في هذا المقطع وغيره، بروح الشعر حاضرة بقوة لا سيما في الأجزاء الخاصة برواية يوسف، حيث يسرد بحميمية شديدة تتخللها الصور والتركيبات الشعرية في أغلب الوقت.

كما استفاد سنان أنطونمن كونه مخرجًا وثائقيًا قدم فيلمًا وثائقيًا بعنوان «حول بغداد»في عام 2004 وظهرت تلك النزعة التوثيقية في بناء الرواية، بدءًا من توثيق يوسف للحياة بالعراق على مر العقود من خلال استخدام الصور، ووصولًا للصفحات الأخيرة التي استخدم فيها حيلة أخرى، هي اعتبار مهاضيفة ببرنامج تليفزيوني تحكي تفاصيل ما حدث بالهجوم على كنيسة النجاة في بغداد، كآخر أحداث الرواية، لتقدم عرضًا توثيقيًا شكلًا ومضمونًا لما حدث.

وسواء كان ذلك السرد واقعيًا بالفعل أو متخيلًا عن تفاصيل هذه الواقعة، فهو أراد تقديمها داخل السرد بذلك الشكل التسجيلي التوثيقي، والذي أضفى بعدًا إبداعيًا، كما استغل فكرة التواسط (استخدام وسيط إبداعي داخل وسيط آخر) ليعمق وقائع ما حدث ويسجل الحادثة إبداعيًا على طريقته الخاصة، فقد استغل سنان أنطونكامل مواهبه أو هي التي فرضت نفسها على شكل السرد داخل الرواية.

في النهاية فالرواية تتناول حياة شخصيات في لحظة بعينها لم يترك لها عسف الواقع سوى الفرار، الفرار تاريخيًا في الماضي الذي يراه صاحبه جميلًا، أو هو كذلك على الأقل مقارنة بذلك الحاضر المخيف، أو الفرار جغرافيًا خارج حدود الوطن الطارد، حيث ليس هناك فرصة للعيش الآمن والحلم بالحياة والمستقبل وسط كل هذه التهديدات.

سنان أنطون شاعر وروائي وأكاديمي ومترجم عراقي، صدر له 4 روايات وديوانان كما ترجم أشعار محمود درويش وسعدي يوسف وسركون بولص وآخرين إلى الإنجليزية، وأخرج أفلامًا تسجيلية عن العراق. صدرت رواية «يا مريم» عام 2012 ووصلت للقائمة القصيرة للبوكر عام 2013.