يعرف «حمادة»، الرجل الكهل المتصابي، بوفاة والدته. تنهار حياته في تلك اللحظة. «الأم» كانت له حصن الأمان الوحيد، الحصن الذي أبقاه طفلاً حتى بعد أن اشتعل رأسه شيبًا. يهيم حمادة على وجهه حتى يتوقف بإحدى عربات البليلة، يقترب من البائع ويخرج كل ما في جيبه من مال، يحصل على طبق مليء بالغلة والحليب، يبدأ في تناوله بنهم شديد، ملعقة تلو الأخرى. يبدو المشهد غريبًا، حتى تبدأ قطرات اللبن في التساقط من ذقن حمادة، في نفس اللحظة التي تبلل فيها الدموع خديه، وحينها تبدأ أنفاسه بالتسارع.

هذا التعبير البليغ عن الفقد قد تم تجسيده ببراعة من الممثل المصري الكبير يحيى الفخراني في الحلقة الثلاثين من مسلسل «يتربى في عزو»، للمخرج مجدي أبو عميرة والكاتب يوسف معاطي.

قد يبدو هذا التجسيد تلقائيًا حينما تشاهده دون أن تدقق في تفاصيله، أو في تفاصيل طريقة يحيى الفخراني المميزة في التجسيد، تلك الطريقة التي تبدو ليست تمثيلية بالقدر الكافي بالنسبة لبعض المشاهدين، في حين أنها على جانب آخر قد ضمنت للفخراني ارتباطًا عاطفيًا بشكل حصري مع جمهور التليفزيون، الذي تربع الفخراني على عرشه بلا منازع طوال ما يزيد عن 20 عامًا.

في تقريرنا اليوم نحلل معكم هذا الأسلوب التمثيلي الذي لم يغير من خلاله الفخراني كثيرًا في شكله أو وزنه باختلاف الأدوار التي يؤديها، ولكنه نجح في تقمص وجداني وصل بالجمهور للظن في أن هذا الرجل لا يمثل، في حين أن هذه التلقائية مخطط لها وبشكل دقيق للغاية.


الأداء الحركي بين عبد المتعال وأوبرا

في عام 1994 قدم الفخراني مسلسلاً بعنوان «لا» عن قصة الصحفي مصطفى أمين، ومن إخراج يحيى العلمي. تدور أحداث المسلسل عن رجل يدعى عبد المتعال محجوب، يجد نفسه ودون تهمة ملقى في السجن لما يزيد عن العام، ثم يفاجأ بأن اسمه منشور في سجلات الوفيات، لتضيع حياته وأسرته ووظيفته دون أن يدرك سببًا لكل هذا.

هنا يعطي الفخراني درسًا في تجسيد الخوف. نجد أن عبد المتعال يتحرك منذ الحلقة الأولى للمسلسل بخطوات قصيرة وسريعة، هذا رجل يمشي وكأنه يهرول، ولكنها خطوات قصيرة في نفس الوقت خوفًا من السقوط. هذا رجل يحمل قدرًا كبيرًا من هواجس عدم الأمان، ولا يتحلى ولو حتى بالقدر اليسير من الثقة بالنفس، لهذا نجده مفرطًا وبشكل دائم في حقه.

يتغير الأمر بشكل مكتمل في مسلسل «أوبرا عايدة» الذي قدمه الفخراني برفقة المؤلف أسامة غازي والمخرج أحمد صقر في عام 2000، حيث يجسد الفخراني شخصية «سيد أوبرا» المحامي الذي يهوى الموسيقى الأوبرالية، والذي يتورط في الدفاع عن طبيبة شابة متهمة بعملية قتل رحيم، فيقع في حبها في النهاية.

«سيد أوبرا» رجل قوي ومتحقق ومحب للحياة، على عكس عبد المتعال تمامًا، وهكذا نرى الفارق بوضوح في الأداء الجسدي والحركي للفخراني. يتحرك أوبرا طوال الوقت بخطوات واسعة، وبحركات متناسقة، يبدو وكأنه يرقص على أنغام موسيقى عمار الشريعي التي تصنع الموسيقى التصويرية في بعض الأحيان، كما يبدو وكأنه سيطير حينما يفرد ذراعيه ويسير على رصيف كورنيش الإسكندرية.


التشخيص والأداء الصوتي بين بشر والخواجة

بالعودة إلى عام 1997 فنجد أن الفخراني قد قدم واحدًا من أبرز أداءاته في دور بشر عامر عبد الظاهر، وذلك في مسلسل «زيزينيا» من تأليف الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة ومن إخراج جمال عبد الحميد. هنا يقدم الفخراني تجسيدًا لسؤال الهوية الذي طالما شغل بال عكاشة، وظهر ذلك جليًا في العديد من أعماله.

بشر يحمل نصف مصري ونصف إيطالي، لكنه مصري الهوية بالكلية، يغلب على صوته الضحك، ويغلب على ملامحه الفهلوة والمزاح، كما يغلب على مزاجه الشجن، ولا تزيد قيمة محبته سوى بعدم تحقق هذه المحبة. نرى هذا بشكل مباشر في علاقته بعايدة، يحبها ولكن شكوكه تدفعه لتدمير علاقته بها، وتماما ككل المصريين فعلاقة الحب المثالية هي تلك العلاقة غير المحققة.

اقرأ أيضًا: مسلسل «زيزينيا»: قراءة في وجوه قديمة

يعود الفخراني ليقدم شخصية الخواجة مرة أخرى، وذلك من خلال مسلسل «الخواجة عبد القادر» في عام 2012، مع المؤلف عبد الرحيم كمال والمخرج شادي الفخراني. المثير للتأمل هنا أن أحداث الخواجة عبد القادر تدور في أربعينيات القرن العشرين، أي أنها نفس الفترة التي تدور فيها أحداث زيزينيا، لكن الفارق شاسع بين بشر وعبد القادر.

عبد القادر هو خواجة بشكل مكتمل، ولد في لندن وعاش فيها حتى وصل لسن الشيخوخة، ولم يأت لمصر سوى بحثًا عن موت سريع أو معنى للحياة، فإذا بهويته تنقلب بفعل الصوفية. هنا تعطي الروحانيات معنى فوق أي منطق للحياة، ينعكس هذا على صوت عبد القادر، لغة عربية مكسرة ولكنها تصل بالمعنى، هذا المعنى الذي يصل بالقلب والعين قبل الكلمات. تسيطر الراحة والهدوء واليقين على ملامح عبد القادر في نهاية المسلسل أيضًا، كما سيطر الترقب والتخبط على ملامحه في بدايته. هنا يبدو الحب متحققًا لارتباطه بمعنى فوق كل المعاني.

كل هذا يبدو مترجمًا في أداء الفخراني الصوتي، وملامحه ونظراته، فيبدو كما لو أن بشر وعبد القادر رجلان عاشا في نفس الزمن بأفكار وهواجس وأحلام مختلفة، وبصوت وملامح متفردة لكل منهما أيضًا.


رجل دراما الواقع من «صيام» إلى اليوم

لا شك أن نجاح يحيى الفخراني الكبير على مستوى الدراما التليفزيونية قد أثر بشكل مباشر على تطور هذه الصناعة، منذ البدايات حينما اختاره المخرج محمد فاضل لبطولة مسلسل «صيام صيام» في عام 1981، والذي تم التأريخ به لبداية وجود مسلسل رمضاني يتم عرضه في توقيت واحد في عدد كبير من المحطات التليفزيونية العربية، وصولاً إلى اليوم.

يحكي الفخراني نفسه أنه كان متشككًا، بل ورافضًا لبطولة هذا المسلسل. فقد كان حينها البطل التليفزيوني لابد وأن يحمل صفات شكلية معينة قادمة من كتالوج النجم الجذاب «جان بريميه»، لكن فاضل كان مدركًا لأن ملامح الفخراني ومقدرته الكوميدية ستضمن له قبولاً كبيرًا لدى المشاهدين، وحينها لن يمانعوا تقديمه لحكاية رجل لم يعتد الصيام، كما أنه متعدد العلاقات النسائية أيضًا. وبالفعل نجح رهان فاضل ونجح المسلسل وانطلق مشوار الفخراني.

هذا النجاح أدى بشكل مباشر إلى تطور ما تم تسميته عقب ذلك «دراما رمضان»، والتي اشتملت بفضل الفخراني وزملاء جيله من الممثلين والكتاب والمخرجين على دراما واقعية اجتماعية ارتبط بها المشاهدون المصريون، وما زالوا مقبلين على مشاهدتها حتى اليوم.

اقرأ أيضًا: كيف تطورت الدراما المصرية في العقد الأخير

قيمة الفخراني التمثيلية وأسلوبه السهل الممتنع ضمن له أداءً يبدو تلقائيًا وطبيعيًا في حين أنه محضر ومخطط له كما سبق وذكرنا، ليس على مستوى تاريخ الشخصية وصفاتها وحسب، بل حتى على مستوى الأداء الحركي والصوتي والدوافع النفسية وراء كل هذا.

هكذا يمكننا تفهم تصريح الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي صنع مجدًا لا ينسى برفقة الفخراني على مستوى الدراما الرمضانية من خلال مسلسل «ليالي الحلمية»، بأن يحيى الفخراني برفقة أحمد زكي ومحمود مرسي هم أفضل ممثلي مصر عبر تاريخها.

كما يمكننا أيضًا تفهم بكاء «حمادة» المخلتط بالحليب أثناء تناول البليلة، هذا البكاء قادم تلقائيًا من روح الطفل التي تسيطر على هذا الرجل الكهل الذي فقد أمه للتو، هذا الرجل الذي تلبس روحه ودوافعه وأفكاره بشكل مخطط له بدقة ممثل قدير اسمه يحيى الفخراني.