«عشر دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب» هذا هو عنوان رواية الروائية التركية إليف شافاك التي وصلت في نسختها الإنجليزية للقائمة القصيرة للمان بوكر البريطانية العام الماضي، والتي صدرت منذ أيام في طبعة مصرية مشتركة بين دار الآداب ومكتبة تنمية، بترجمة محمد درويش.

اعتمدت الرواية في بنائها على فكرة علمية مفادها أن العقل البشري يبقى على قيد العمل بعد الوفاة لمدة 10 دقائق و38 ثانية على وجه التحديد، وفي هذه الأثناء يدور أمامه شريط حياته كفلاشات سينمائية سريعة. وهكذا تنقلنا إليف شافاك إلى بطلة روايتها «ليلى تكيلا» التي نتعرّف عليها وهي جثة هامدة قد فارقتها الحياة، ولكنها تسترجع في عشر دقائق وثمانية وثلاثين ثانية شريط حياتها وما مر بها، وما أوصلها لهذه النهاية المأساوية.  

على الرغم من كل ما يحكى ويثار ويتداوله الناس هنا وهناك عن تركيا وموقفها وما تشهده من تحضر ورقي إلا أنه يبدو أنها لا تختلف كثيرًا في نظرتها للآخر المختلف عنها كثيرًا عن الصورة الشائعة التي يتعامل بها العرب والشرق بشكلٍ عام مع الآخر، وماذا سيكون الأمر بالنسبة للنساء، الحائط المائل في المجتمعات الشرقية والعربية والذي لا يزال يعاني من القهر والتهميش، ومحاولات فرض القوة والسيطرة من كل فئات المجتمع.

من ألم الوحدة إلى آلام العالم

 في حوار تلفزيوني لها على BBC مع جزيل خوري تقول إليف شافاك:

أجد نفسي مهتمة بالآخر وبالأقليات، بالذين لم تُسمع أصواتهم، بالذين دفعوا إلى الهامش، مهما كان الزمان والمكان الذي عاشوا فيه، وهكذا أبحث عن من يشكلون الآخر في عصرٍ ما وبلدٍ ما، أرى أن من واجب الأدب أن يمنح صوتًا للمقموعين والمنسيين والذين لا مكان لرأيهم وصوتهم ضمن الرأي الرسمي. هذا في طبعي وشخصيتي. أنا مهتمة بقصة كل من يشعر أنه وحيد.

ربما هذا ما يفسّر للقارئ بشكلٍ واضح لماذا تهتم إليف شافاك دومًا بأن تجعل أبطالها من هذه الفئة المهمشة والمنبوذة اجتماعيًا، ولذا وجدنا بطلتها في هذه الرواية هي ليلى تكيلا تلك الفتاة المسكينة التي عانت من التحرش في طفولتها داخل عائلتها، مما دفعها للهرب والوقوع في براثن تلك المدينة القاسية التي لا ترحم الغرباء. ليس ليلى فحسب بالطبع، ولكن أيضًا نتعرّف في الرواية على أصدقائها الخمسة الذين يحمل كل واحدٍ منهم صفة أو وصمة تجعله منبوذَا داخل هذا المجتمع والبيئة التي لا تفسح مجالاً للآخر المختلف عنها.

ربما يشعر القارئ بعد الغوص في صفحات الرواية والدخول في تفاصيل حكاياتها المتشابكة، بين ما تتذكره ليلى، وما يُروى على لسان أصدقائها أن ثمة تفاصيل ناقصة، أو حكايات غير مكتملة كان من الواجب أن نعرفها عن هذه الشخصيات حتى يكون التفاعل معها أكبر. والذين قرؤوا لإليف شفق وعرفوا عالمها لا شك سيتذكرون شخصيات مؤثرة مرسومة بعناية من روايتها السابقة، فليست المرة الأولى التي تحضر فيها شخصية «البغي» كما سمتها في «قواعد العشق الأربعون»، أو شخصية «السكران» أو «الشحاذ»، وكيف استطاعت أن تعبّر عنهم من جهة، وتجعل حكاياتهم البعيدة مندمجة مع قصة الرواية الأصلية التي تحكي علاقة الرومي بشمس الدين. 

ولكن مقارنة بسيطة بين شخصياتها هناك وما أوردته من تفاصيل لعدد من شخصيات الرواية هنا، سواء صديقات ليلى أو شخصية مؤثرة في حياتها مثل «د/علي» تجعل المرء يدرك أن هناك جوانب كثيرة مجهولة لم يتم ذكرها في حياة هذه الشخصيات، رغم ثراء عوالم كل واحدٍ منهم، وما يمكن أن تعرضه من جوانب حياته، من جهة أخرى لم يكن هناك ربط واقعي بينهم وبين ليلى بطلة الرواية بل بدو إلى حدٍ ما كشخصيات مستقلة، ربما يكون قد فرضهم رغبة شافاك في عرض عدد من الأفكار المختلفة الجديدة مثل تقبل المتحولين جنسيًا وكيف يتم التعامل معهم في المجتمع وغير ذلك! 

اقرأ أيضًا: بنات «إليف شفق» الثلاث ونظرية «فرويد» عن مكونات الشخصية

التعرف على الحاضر من خلال توثيق الماضي

جانبٌ آخر من جوانب اهتمام إليف شافاك في الكتابة الروائية هو توثيق الماضي، لكي لا ينساه الناس. ففي كل رواياتها منذ بدأت وحتى اليوم ثم حضورٌ بارز للماضي بصورٍ مختلفة، أماكن وأحداث ووقائع تاريخية لابد أن يمر بها السرد، يركز عليها حينًا، ويمر من خلالها بشكلٍ عابر أحيانًا أخرى، بل وكثيرًا ما يجر عليها ذكر تلك الأحداث التاريخية وتوثيقها العديد من الانتقادات بل والمحاكمات، مثل ما حدث مع رواية «لقيطة إسطنبول» التي ذكرت فيها مذابح الأتراك للأرمن عام 1915 وما حدث فيها، مما دفع الأتراك إلى اتهامها بإهانة الهوية التركية الوطنية، وحكم عليها بالسجن ثلاثة أعوام ثم نالت العفو.

ربما يختلف الأمر هنا قليلاً، فبطلة رواية عشر دقائق لم تقتصر على حدثٍ تاريخي واحد، بل مرت بعدد من الأحداث السياسية والتاريخية المؤثرة في بلادها، بدءًا بمذبحة إسطنبول في عيد العمال عام 1977، وكذلك ما حدث من احتجاجات شعبية عام 1990 في مواجهة الاعتداء على العاملات بالجنس. بالإضافة إلى رصدها تواريخ عدد من المواقع والأماكن التركية وما دار ويدور فيها مثل مقبرة الغرباء في بلدة كيليوس وما تحمله من مآسٍ تتعلق بمن يدفنون فيها كل عام، و كذلك شارع المواخير وما يدور فيه من صفقات لا تزال حتى اليوم.

قيمة الصداقة والنجاة الفردية

منذ بداية الرواية ثمة إشارات وتلويحات لفكرة النجاة الفردية، وقدرة الأفراد على تحدي صعاب حياتهم ومشكلاتهم داخل أسرهم أو مجتمعاتهم الضيقة، والفرار بأفكارهم وحريتهم إلى حيث يجدون الأمان، أو إلى حيث يبحثون عن التحقق والسعادة، وهو سعي الإنسانية كلها، ليس مقتصرًا على فردٍ دون آخر أو جماعة دون أخرى بالتأكيد، ولكنه يكون أكثر بروزًا ووضوحًا مع الأقليات المهمشة المغلوبة على أمرها، الذين يتعرضون باستمرار للاضطهاد والقمع، وهنا تأتي قيمة كبرى مثل قيمة الصداقة التي تؤكد عليها إليف شافاك في هذه الرواية وتركز عليها. وتعبّر من خلال صديقات بطلة الرواية ليلى عن تلك الفكرة بوضوح في المعنى الذي طرحته من خلال «نولان»:  

أمَّا بخصوص أسرة الماء، فهي تتشكّلُ في مرحلةٍ لاحقةٍ جدًّا من الحياة، وتكون من صنيعِكَ أنتَ إلى درجةٍ كبيرةٍ. صحيح أنَّ شيئًا لا يحلّ محلَّ أسرةٍ بيولوجيّةٍ سعيدةٍ ولطيفة، إلّا أنّه في غياب هذه الأسرة، فإنَّ بمقدور أسرة الماء الجيِّدة أن تغسلَ الجروحَ والآلامَ المتراكمة في الداخل كالسُّخام الأسود..ولهذا السَّبب، كان بإمكان الأصدقاء أن يحظوْا بمكانةٍ غاليةٍ في القلب، ويحتلُّوا مساحةً أكبرَ من المساحة التي يحتلُّها كلّ الأقرباء مجتمعين. إلَّا أنَّ مَنْ لم يختبروا كيف يمكن أن يزدريَهم أقاربُهم لن يَفهموا هذه الحقيقة ولو بعد مليون سنة، ولن يعرفوا أبدًا أنَّ ثمَّة أوقاتًا يكون الماءُ فيها أكثفَ من الدم.
عشر دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب _ إليف شافاك

بين العقل والجسد والروح

قسّمت إليف شافاك الرواية إلى ثلاثة أقسام، جاء الأول فيهم «العقل» وفيه استطاعت إليف شافاك أن تعرض بشكلٍ موجز، وعلى فقرات قصيرة متصلة منفصلة مشاهد من حياة بطلتها، وماضيها، واللحظات المؤثرة في حياته، كل ذلك بالتوازي مع حكايات أصدقائها الخمسة، الذين تقدم لكل واحدٍ منهم بفصلٍ خاص، تأتي فيه على حكايته بشكلٍ عام وكيف بدأت علاقته ببطلة الرواية ليلى وإلى أين انتهت علاقتهم.   

ربما تكمن مشكلة الرواية في القسم الثاني الذي سمته أليف شافاك «الجسد» الذي دار برمته حول كيفيه تعامل أصدقاء ليلى مع جثتها بعد وفاتها، والذي طرحت فيه أجزاء من تباين عوالم وأفكار هؤلاء الأصدقاء الذين جمعهم القدر مصادفةً ليكونوا أصدقاء تلك الفتاة المسكينة.

فمنذ بداية هذا الفصل ونحن نعرف أن هناك قرارًا بخصوص جثة «ليلى» يتخذه هؤلاء الأصدقاء، ولكننا بدلاً من أن نذهب مباشرة إلى هذا القرار وتلك الفكرة دارت بنا كاميرا الكاتبة حول المشهد أكثر من مرة لتعرضه من كل جوانبه، ربما لكي تضع القارئ في الموقف تمامًا، حتى يتفاعل مع كل كلمة وكل جملة حوارية يتحدث بها أبطال الرواية، ولكن كل ذلك لم يكن في صالح انسايبية السرد مما أبطأ من هذا الجزء بشكلٍ خاص، وجاءت المفاجأة في الفصل الثالث والأخير الذي سمته «الروح» رغم كونه مؤثرًا، ورغم عودتها إلى بطلتها «ليلى» وما يفترض أن تشعر به روحها وهي متحررة من كل تلك القيود إلا أنه انتهى بسرعة.

 في النهاية استطاعت أن تقدم إليف شافاك من خلال روايتها الجديدة صورة بانورامية شديدة القسوة والواقعية عن مدينة إسطنبول التي تصفها بأنها مدينة أنثى، ونسائها وما يعانين من حياتهن فيها وهي تهديهن روايتها أيضًا، ذلك أنها مدينة ثريّة تحوي كل هذه القصص والحكايات وأكثر، ويبدو أنها لا تختلف كثيرًا عن العديد من المدن الشرقية والعربية التي ينطبق عليها ما قاله صلاح جاهين عن مصر: «اكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء.. واسيبها واطفش في درب وتبقى هي ف درب .. وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب».