كنا قد تناولنا في المقال السابق حقيقة نشأة الإسماعيلية والصيرورة التاريخية التي مر بها الإسماعيليون النزاريون على وجه الخصوص – كأكبر مكون إسماعيلي حيث يبلغ تعدادهم 12 مليون نسمة – من خلال تتبع مسيرتهم العقدية والسياسية الطويلة وصولا إلى إرسائهم لنظام «الأغاخانية» كقيادة روحية وسياسية للشيعة الإسماعيلية النزارية حول العالم.

ولعل الأغاخانية عرفت ميلادها الحقيقي على يد الأغاخان الرابع كريم الحسيني الذي ولد في عام 1936 في مدينة جنيف السويسرية على نهر الرون، ودرس في مدرستها الداخلية الأشهر «لوروزى»، ليخلف جده في الإمامة وهو في العشرين من عمره، ثم تابع دراسته الأكاديمية في جامعة هارفارد لكي يحصل منها على إجازة في التاريخ الإسلامي عام 1959، أي بعد توليه للإمامة الروحية لطائفته.

ويحرص الأغاخان على القيام بزيارات منتظمة لأتباعه في آسيا وأفريقيا وأمريكا الشمالية. وقد حافظ الأغاخان على نظام المجالس والإدارة الجماعاتية المعقد[1]، الذي استحدثه جده «الأغاخان الثالث»، وأصدر دستورًا جديدًا عام 1986، نص في ديباجته على المعتقدات الإسلامية الأساسية كالشهادة والصلاة والحج، ومع ذلك يُعرِّف الإسماعيليون مثلًا الحج إلى مكة بالحج الظاهري الذي يفيد الجسم، بينما الحج باطني إلى الإمام الحي يفيد الروح ويسمو بها؛ وتعريفات أخرى للعبادات. وحدد الدستور صلاحيات الإمام أو الأغاخان على أنه المنوط به إرشاد الطائفة إلى طريق الاستنارة الروحية وتحسين الحياة المادية.

للاستماع إلى نشيد الأغاخانية هنا


AKDN طبيعة شبكة الأغاخان للتنمية

AKDN هي مجموعة من المؤسسات تشتمل على هيئات ربحية وأخرى غير ربحية، قد نمت وكبرت على مدى قرن من الزمن، وهي أكبر وكالات التنمية الخاصة في العالم، حيث تعمل في أكثر من 30 بلدًا، وقد تأسست هذه الشبكة على خلفية المؤسسات التي أوجدها الأغاخان الثالث (1885-1957) لتلبية حاجات الجماعات الإسماعلية في الهند وشرق إفريقيا.

وقد توسعت كثيرًا في ظل قيادة الأغاخان الرابع كريم الحسيني، لتصير اليوم أكثر من 140 هيئة منفصلة تنتمي للشبكة تُشغِّل أكثر من 58 ألف عامل رسمي، غير آلاف العمال المنخرطين في شركات وطنية ودولية تعمل شبكة الأغاخان للتنمية من خلالها، وحوالي 20 ألف متطوع يعمل بدوام كامل[2].


التنمية الاجتماعية للشبكة

كان الأغاخان الثالث ما ينفك يرشد أتباعه إلى محو الأمية في أوساطهم، وقد قام بتوجيه الإسماعيليين في إيران إلى استخدام 80% من أموال العشر في بناء المدارس[3]. وعندما تولى الأغاخان الرابع كريم الحسيني الإمامة وهو في العشرين من عمره، أخذ على عاتقه إنشاء ورعاية العديد من المؤسسات الصحية والتعليمية التي تم إنشاؤها في جنوب شرق أسيا وإفريقيا، حيث يمتلك الأغاخان هناك ما يزيد عن 300 مدرسة.

1. برنامج «المدرسة» للطفولة المبكرة

انطلقت هذه المبادرة في صورة مشروع تجريبي في منتصف الثمانينيات في المنطقة الساحلية المباسا في كينيا،حيث طلب قادة الجماعة المسلمة هناك (على المذهب الإسماعيلي) من الأغاخان مساعدتهم في وضع أطفالهم على السكة الموصلة إلى الجامعة للحصول فيما بعد على وظائف مرموقة، ويقوم برنامج هذه المدارس على تعليم القراءة والكتابة للأطفال والمهارات الحسابية بالإضافة إلى الرسم لأطفال بين سن الثالثة والسادسة من العمر.

2. تمويل المشاريع الصغيرة

وهو برنامج يستهدف النساء على وجه الخصوص والرفع من مستواهن المعيشي من خلال الادخار بمبالغ بسيطة مقابل منحهن قروضًا فيما بعد إلى أجل، يستطعن من خلالها البدء في مشروعات صغيرة.

وقد تأسست هذه الوكالة للتمويلات الصغيرة منذ العام 2005، وجعلت من أهدافها خفض الفقر ومعالجة حالة الهشاشة لدى الفقراء، وتقول الوكالة أنها ساعدت مناطق ريفية وحضرية على حد سواء حول العالم بغض النظر عن خلفياتهم وثقافاتهم، لأن الوكالة حسب القائمين عليها هي إحدى الوكالات غير الربحية ولا الطائفية. وقد استُحدثت بموجب القانون السويسري ومقرها الرئيسي في جنيف.[4]

3. وكالة الأغاخان لإنشاء المستوطنات «المساكن»

تقوم وكالة الأغاخان لإنشاء المستوطنات «المساكن» بدور تدخلي يقوم على التجهيز لكل من الكوارث المزمنة والمفاجئة والبطيئة وذلك لمواجهة التهديد المتزايد الناتج عن التغير المناخي. تعمل الوكالة لضمان ظروف معيشة طبيعية وآمنة للفقراء من آثار الكوارث الطبيعية، بحيث يكون المقيمين في المناطق عالية خطورة قادرين على التعامل مع هذه الكوارث من خلال الاستعداد والاستجابة. وتوفر هذه الإعدادات الحصول على الخدمات الاجتماعية والمادية التي تؤدي إلى الحصول على فرصة أفضل ومستوى معيشي أحسن.


القطاع المالي والسياحي

سعت الأغاخانية منذ وقت مبكر لتتنويع قاعدتها المالية، فأسس الأغاخان الثالث شركة ليوبيل للتأمين عام 1936 في شمال إفريقيا. وبعد تولي الأغاخان الرابع للإمامة الإسماعلية عام 1957، تحوّل إلى منح القروض من خلال ما صار يُعرف بعد ذلك بـ «مصرف الأمانة الماسي» أو ما يُعرف بالاختصار DTB، ويعمل في كل من كينيا وأوغندا وتانزانيا، وهي مناطق ذات وجود إسماعيلي في إفريقيا.

وشهد أيضا القطاع المالي في الهند وباكستان (الكتلة الكبيرة من الإسماعيليين تقطن هناك)، توسعات هذه المصارف مع حلول القرن الواحد والعشرين لنصبح أمام عمليات مصرفية كاملة. وفي سنة 2003، تجاوز عدد ما تديره شبكة الأغاخان للتنمية من مصارف التمويل الصغير وبرامج الإقراض عبر إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب أسيا ووسطها، الأربعين مصرفا[5].

أما على الصعيد السياحي، فتمتلك شبكة الأغاخان أحد أكبر الفنادق العالمية، وهو فندق «سيرينا» في بلدة ستون تاون في زنجيبار التي تحتل أعلى سلم الأماكن السياحية التي يفضلها الأمريكيون والأستراليون. وهذا الفندق ذو النجوم الخمس هو جزء من المشروع التنموي الذي تتولى إدارته أمانة الأغاخان للثقافة، بالإضافة إلى عدد من الفنادق الأخرى من الدرجة الأولى في كل من نيروبي ومابوتو وكمبالا وكيغالي وإسلام أباد وكابل.

كما تنشط شبكة الأغاخان في خدمات الترويج السياحي ويقوم صندوق الأغاخان للتنمية بتوفير العملات الأجنبية للاقتصاديات المضيفة ويساهم في مواردها من خلال الضرائب.

وسنأتي في المقال القادم على ذكر كيفية توظيف الأغاخان لهذه القوة الناعمة في تحصيل مكاسب سياسية لطائفته وتشكيله لوبيًا عالميًا كبيرًا من خلال شبكته.


[1] فرهاد دفتري: تاريخ الإسماعيليين الحديث الاستمرارية والتغيير لجماعة مسلمة، ترجمة: سيف الدين القصير، ص39.[2] ماليس روثفن: تاريخ الإسماعيليين الحديث الاستمرارية والتغيير لجماعة مسلمة، مقال شبكة الأغاخان للتنمية ومؤسساتها، ترجمة: سيف الدين القصير، ص243.[3] مذكرات الأغاخان الثالث ،لندن 1954، ص114-116.[4] للمزيد حول وكالة تمويل المشاريع الصغيرة: هنا.[5] ماليس روثفن: تاريخ الإسماعليين الحديث الاستمرارية والتغيير لجماعة مسلمة، مقال شبكة الأغاخان للتنمية ومؤسساتها، ترجمة: سيف الدين القصير، ص269.