الصراع هو معنى الحياة، الهزيمة أو النصر هما بيد الله، لكن الصراع بحد ذاته هو واجب الإنسان ويجب أن يكون متعته أيضًا.

الأغاخان الثالث محمد شاه (الدرر الثمينة، ص109، ط3، كراتشي 1961)

كان الجزء الثاني من هذه السلسلة قد تناول بشيء من التفصيل ما أسميناه بـ «القوة الناعمة للإسماعيليين في العالم» مستعرضًا بذلك مسيرة «شبكة الأغاخان التنموية» التي تنشط في قارات العالم الأربع ومدى تأثيرها في صناعة نفوذ الطائفة الإسماعيلية في إفريقيا وأسيا واليوم نشرع في تناول موضوع أخر هام مكون من محورين هامين في المسيرة الإسماعيلية الأغاخانية المعاصرة هما: المشاركة السياسية والهجرة.


هبوب رياح الطموح السياسي

لعل ما تتميز به الفرقة الإسماعيلية بين مثيلاتها من الفرق الشيعية الأخرى هو طموحها السياسي الأصيل الذي جعلها تؤسس أول إمبراطورية شيعية في التاريخ زاحمت الخلفاء العباسيين السنة بالمناكب في سيادة العالم الإسلامي لأمد بعيد. ومع ذهاب الأغاخان الأول إلى مدينة بومباي الهندية، بدأت تتوطد علاقة الإسماعيليين مع الراج البريطاني (السلطة الاستعمارية للهند) كجزء من ممثلي لشطر المسلم من الهند. لكن الإسماعيليين أيضًا انتظموا في الحركة الوطنية الهندية المناهضة للاحتلال البريطاني، وكان أبرز رموزهم هو المحامي الليبرالي محمد علي جناح (المنادي بوطن قومي للمسلمين في الهند) الذي شارك، في نضاله الحقوقي، غاندي وجوهر أل نهرو. وقد قام الأغاخان الثالث محمد شاه رفقة محمد علي جناح وآخرين بتأسيس عصبة مسلمي الهند 1906، وترأسه.

وسعى الأغاخان الثالث لمحاولة إيجاد نوع من المظلة الإسلامية وتقديم نفسه كرجل مؤثر في العالم، ما أوقعه في عدة تناقضات من بينها تأييده للحلفاء في الحرب العالمية الأولى 1914 (بريطانيا وفرنسا وروسيا)، وحروب الدولة العثمانية في البلقان في نفس الوقت، ثم ترأسه فيما بعد عام 1937 لمنظمة عصبة الأمم التي قامت كرد فعل ضد الحرب العالمية الأولى وآثارها المدمرة على العالم والحيلولة دون وقوع حرب جديدة، وهو ما فشلت فيه لاحقًا.

وقد لعب الأغاخان بعد ذلك دورًا حيويًا في دولة باكستان التي يرى الكثير منهم أنها لم تكن لتقوم دون توحد الإسماعيليين مع السنة ونظرتهم للإسلام كقومية. ولعل أبرز العائلات الإسماعلية التي لعبت دورًا أساسيًا في الحياة السياسية الباكستانية كانت عائلة بوتو التي خرج منها الرئيس الباكستاني ورئيس الوزراء السابق ذو الفقار علي بوتو الذي دفع ثمن ثقته في عسكري مغمور رقاه لجنرال ورئيس أركان يسمى محمد ضياء الحق الذي قاد انقلابًا عسكريًا انتهى بإعدام بوتو وتولي ضياء الحق لرئاسة الجمهورية، لتستمر المأساة الشكسبيرية لهذه العائلة الإسماعلية.

وأما على أطراف البادية السورية في الجنوب الشرقي، مدينة حماة تحديدًا، فتقع مدينة السلمية إحدى أهم مراكز الإسماعيليين في العالم التي كانت في القرن التاسع عشر تُحكم من مجموعة من الأمراء التقليديين الإسماعيليين، وتحديدًا عائلات: إسماعيل، والجندي، وميرزا، الذين ارتبطوا بعلاقات وطيدة نسبيًا مع الدولة العثمانية، وعملوا في الجباية الضريبية[1] على عكس البدو والعلويين الذين لم يستطيعوا أن يحوزوا ثقة الحكم العثماني.

لكن برزت في تلك الحقبة أيضًا نزاعات بين أتباع الأمراء التقليديين والزعماء الإسماعيليين الجدد المتمردين على سلطة الأمراء التقليديين من أمثال حمادي العمر الذي تقول بعض المصادر الإسماعلية المتحاملة عليه أنه قد تسنن مع ابنه، وأغرى السلطات العثمانية بالبدأ في تجنيد أبناء مدينة السلمية من الإسماعيليين في الجيش العثماني[2] (وكانت السلطات العثمانية تفرض التجنيد الإجباري على أبناء السنة فقط وتمنع أبناء الأقليات من دخول الجيش، وهو ما سيخلف فيما بعد زهد السنة في العسكرية بسبب الذاكرة الجمعية للتجنيد الإجباري والحروب العثمانية مقابل تشوق أبناء الأقليات للجندية).

وهذه الصراعات كادت تمس بسلطة الأغاخان الثالث الروحية؛ فمن المرويات الشعبية التي أوردها الشيخ الإسماعيلي عبد الله المرتضى في كتابه «الفلك الدوار» أن حمادي العمر قام بتحريض السلطات العثمانية ضد أتباع الأغاخان وإخبارهم بموعد نقل أموال الخمس إلى الأغاخان فأدى ذلك إلى مصادرتها.

سعى الإسماعيليون في مرحلة الانتداب الفرنسي لتحقيق مكاسب في دولة ما بعد الاحتلال والحد مما اعتبروه إقصاء لهم في الماضي. ولعل الظهور الإسماعيلي الأبرز كان في انقلاب حزب البعث السوري عام 1963 على حكومة الانفصال عن مصر بقيادة رئيس الجمهورية ناظم القدسي، وتولى قيادة كتلة الضباط الإسماعيليين المشاركين في الانقلاب كل من: عبد الكريم الجندي وأحمد المير اللذيْن سرعان ما اشتركوا أيضًا في انقلاب اللجنة العسكرية نفسها بقيادة صلاح جديد ضد الرئيس البعثي أمين الحافظ.

وكان لهذا الانقلاب آثار سلبية على العائلات الإسماعيلية الكبيرة، خصوصًا مع برامج الإصلاح الزراعي وما حمله من إضعاف لسلطة العائلات الإقطاعية والأميرية. كان الأغاخان الثالث محمد شاه يبعث بولده الأمير علي خان كمبعوث له إلى السوريين. ومع بداية تنصيب الأغاخان الرابع كريم الحسيني، أجرى توقفًا في مطار بيروت واستقبل وفدًا مبايعًا له من الإسماعيليين السوريين في أغسطس/آب 1957[3]، واتسمت سياسة الأغاخان الرابع في سوريا بالبعد عن العمل السياسي والانشغال بالعمل التنموي والإنساني، وإن كان بعض هذه المشاريع قد قام البرلمان السوري بتعطيله مرارًا.


الهجرة والاستيطان

عرف الإسماعيليون في أطوار من تاريخهم الهجرة، وفي أطوار أخرى التهجير، ولكنهم عبروا المحيط الهندي الغربي إلى شواطئ أفريقيا الشرقية في بداية القرن التاسع عشر، ليسجلوا تواجدًا كبيرًا في كل من: تنزانيا وكينيا وأوغندا والموزمبيق والكونغو وبوروندي ومدغشقر، وسواها من البلدان الأفريقية. وكانت هذه الموجات دائمًا مرافقة لعوامل دولية من بينها ظهور دول قومية والمجيء الاستعماري إلى أفريقيا، وقبلها انهيار الدولة العثمانية والراج البريطاني. واشتغل هؤلاء الإسماعيليون في التجارة، وكان لهم أئمتهم المنصبون من قبل الأغاخان، وهم الذين يبثون بينهم رسائله الروحية[4].

ولعل نتائج هذه الهجرات أيضًا قد انعكست على أحفاد المهاجرين إلى إفريقيا الذين عرفوا بعد 170 سنة فقط موجة هجرات أخرى نحو أوروبا الغربية وشمال أمريكا، ليتولَّد عنها ما عرف بالسياق الكندي الإسماعيلي، وهي إحدى أنجح تجارب الهجرة والاستيطان الإسماعيلي.

فقد بدأ التواجد الإسماعيلي في كندا منذ 1952 عند وصول طالب باكستاني إسماعيلي للدراسة في كندا، وسرعان ما لحق به شقيقه وزوجته، ثم وُلد لهم طفل إسماعيلي في كندا على ما يورده الباحث كريم الكرجي في مقاله «منعطفات حاسمة في التقليد والحداثة وما بعد الحداثة: تعامل الإسماعيليين مع المجتمع الكندي المعاصر». وبدأ هؤلاء الطلاب ينشطون في المجتمع الكندي مع جمعيات مسلمة من أهل السنة، ولعبوا دورًا أساسيًا في تأسيس جمعية «مسلمي أتاوا» ونجحوا في بناء أول مسجد للمسلمين في كندا مبكرًا، إضافة إلى عديد المراكز الإسلامية التي تعنى بالتراث والعمارة الإسلامية وأندمج الإسماعيليون في المجتمع الكندي ولم يجدوا تناقضًا بين التعامل مع مؤسسات علمانية غربية والحفاظ على الهوية الجمعية لهم.

في الحلقة القادمة والأخيرة من هذه السلسلة، سنتناول المنظومة المعرفية والقانونية للأغاخانية، فكونوا في الموعد.


[1] Norman N. Lewis: Nomads and Settlers in Syria and Jordan (1800–1980), Cambridge, 1987, p.p 58-73.

[2] ديك دوز: التاريخ الحديث للإسماعيليين النزاريين في سورية، ضمن: تاريخ الإسماعيليين الحديث، تحرير: فرهاد دفتري، دار الساقي، 2013، ص63.[3] نفس المصدر، ص72.[4] ذو الفقار هيرجي: التكوين القانوني-الاجتماعي للإسماعيليين النزاريين في شرق إفريقيا (1800-1980)، ضمن: السابق، ص 173-174.