شئنا أم أبينا، ومهما حاولنا غض النظر أو تزييف الواقع، كانت وما زالت الرياضات وكرة القدم خصوصًا بمثابة امتداد للنهج السياسي المتبع من قادة الدول وسياسييها، فلا يكاد يمر موعد هام أو مناسبة يمكن استغلالها إلا و كان للساسة دور في مشهدها الختامي سواء كان تتويجًا واحتفاءً بالنجاح، أو تكريمًا وافتخارًا بالجهود المبذولة.

ظلت السياسة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا عبر التاريخ بالرياضة الأكثر متابعة حول العالم بحكم شهرتها واحتشاد الرأي العالم حولها بمختلف مستوياته سواء كانت نقدية أم شعبية من الجماهير.

حاول بعض القادة تشبيه الأمر وكأن اللعبة جزء من النظام السياسي من خلال تدخلهم في بعض القرارات، وتسييسهم للعبة لخدمة توجهاتهم وغاياتهم، وكانت المسألة في بعض الأحيان أشبه بالزواج غير المستقر الذي يهدده الطلاق في أي وقت، وأدى لاشتعال المشاكل سواء في الشأن الداخلي كما حدث مع كورينثيانز والنظام العسكري البرازيلي،أو هددت بتفجير الأزمات على الساحة العالمية كما حدث خلال حرب فوكلاند وتهديد تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية بـ سحب مشاركة المنتخبات البريطانية من مونديال 1982، وانتهاء بحرب الـ100 ساعة بين السلفادور وهندوراس.

أمثلة كثير في تاريخ الكرة وحاضرها شهدت تدخلاً من الأنظمة السياسية في الشأن الكروي، سواء كانت لخدمته بالفعل والاستفادة في الوقت نفسه من نجاحاته، أو على النقيض تمامًا من خلال استخدام كرة القدم ونجاحاتها كوسيلة لإعطاء صورة إيجابية عن الدول الديكتاتورية وتعزيز نفوذ حكامها.


الأرجنتين: الكرة تحت إمرة البيادة العسكرية

لاشك في أن كرة القدم هي الرياضة الأكثر متابعة في الأرجنتين كما في غيرها من جيرانها في أمريكا الجنوبية، لكن ما يميز الأرجنتين عن غيرها أن كرة القدم كانت تتدحرج دائمًا في خندق السياسة وترتبط كثيرًا بقرارات حكامها عبر التاريخ، كما كان عليه في عهد خوان بيرون والذي بلغ فيه تدخل الدولة بكرة القدم ذروته، وانتهاء بخورخي رافائيل فيديلا والذي كان يمارس تدخلاته وفقًا لما كتب في قاموس سلفه بيرون.

سياسات بيرون كانت تسعى إلى توسيع نطاق التدخل في البنية التحتية للرياضة عمومًا، وأصبحت كرة القدم أولوية رئيسية بالنسبة لنظامه الديكتاتوري. فكان بيرون حريصًا على إعطاء صورة إيجابية عن بلاده من خلال الدعاية السياسية لكرة القدم، وبالتالي تسعى إلى تعزيز أهمية كرة القدم من أجل تحقيق هذا الهدف. ورأى بيرون إمكانية لتسخير الطاقات الإيجابية للرياضة من أجل تعزيز صورته كرمز للفخر الوطني والوحدة الوطنية، فاعتمد عدة شعارات منها «El primer deportista» والتي تعني «بيرون، الرياضي الأول» وكذلك «بيرون راعي الرياضة».

وكان من يرفض تلبية الطاعة يتعرض للاعتقال أو الاختفاء القسري، ومن يقدمها كان يسمح له بالمشاركة في البطولات الخارجية ممثلًا اسم الأرجنتين تحت راية بيرون راعي الرياضة. ودهاء بيرون يتجلى من خلال رؤيته لأهمية الرياضة وإيمانه بإمكانية استخدامها كوسيلة للتقدم السياسي، فكان لا يفوّت أي نشاط رياضي هام إلا وكان من أبرز الحاضرين، وخاصة في مباريات كرة القدم في بيويس آيرس، حيث كان له شعبية جارفة في نادي بوكا جونيورز، وأدرك بيرون أن ملعب كرة القدم بمثابة بقعة مثالية لتعزيز أفكاره القومية.


خير خلف لخير سلف

أما خورخي فيديلا، فاستخدم كأس العالم لإلهاء العالم عن الحرب القذرة التي شنها ضد معارضيه في الأرجنتين، قبل انطلاق البطولة في عام 1978، كان فيديلا يرأس المجلس العسكري أو ما يدعى بالـ«خونتا».

فيديلا سعى لإبادة المعارضين خلال الاستعراض الذي يشغل فكر العالم أجمع، فعندما كان الملايين يتابعون مباريات كأس العالم على شاشات التلفاز، كانت أجهزة الأمن تختطف وتعذب الآلاف من النشطاء السياسيين، وكان كأس العالم بمثابة قناع جميل يغطي هذا الوجه البشع للأنشطة الإجرامية لفيديلا، وكان انتصار الأرجنتين بالمباراة النهائية لكأس العالم 1978 المقامة في الأرجنتين آنذاك بمثابة وسام ذهبي للفخر الوطني.

واستمد فيديلا هذه الراحة في القضاء على معارضيه من دعم الولايات المتحدة له، وخاصة من خلال الدعم الذي قدمه هنري كيسنجر الذي حضر بنفسه مباراة الأرجنتين وبيرو خلال منافسات كأس العالم 1978 جنبًا إلى جنب مع فيديلا.

ووقف الجميع مصفقًا لحضور ممثل الدولة التي تمنح الشرعية لمن تريد وتسلبها ممن تشاء. وكان تأثير دكتاتورية فيديلا ليس مقتصرًا على لاعبي الأرجنتين، فما حصل خلال المباراة ذاتها يعد مثالًا صارخًا على الطريقة التي ينتهجها نظام فيديلا العسكري.

مع حاجة الأرجنتين للفوز بفارق 4 أهداف للتأهل إلى الدور القادم، تمكن منتخب الألبيسيليستي من الانتصار بنتيجة 6-0 والتأهل لمواجهة هولندا، ولكن قصة بيرو لا تتوقف عند هذا الحد. فالشوط الأول قد انتهى بفارق هدفين لصالح الأرجنتينيين، لكن المسرحية التي حصلت بين شوطي المباراة غيرت المشهد بأكمله.

يقال أن هناك صفقة سرية قد حصلت بين رئيس بيرو وفيديلا، وخلال الاستراحة زار فيديلا بصحبة كيسنجر غرفة المنتخب البيروفي متمنيًا لهم التوفيق وسط ذهول الجميع، لمعرفتهم بأن التوفيق يجب أن يكون لخصمهم ليس لهم. الشوط الأول انتهى بثنائية، سرعان ما استبدل المدرب البيروفي أهم لاعبيه بعد بداية النصف الثاني، لتنتهي معها أبرز المباريات التي شهدت تلاعبًا في نتائجها عبر التاريخ.

استمرت السياسة ذاتها خلال حرب جزر فوكلاند بين الأرجنتين وإنجلترا، والتي حملت معها هزيمة قاسية للأرجنتينيين، لكن فيديلا أخبر شعبه ولاعبي منتخبه بأن الانتصار حليف جيشه، وتنكشف الحقيقة المرة للاعبي المنتخب عند سفرهم للمشاركة في مونديال إسبانيا 1982، ويكتشفون أن هناك المئات من الأرجنتينيين قد لقوا حتفهم خلال الحرب.


فرصة مثالية لإعادة الثقة

مشاركة المنتخب المصري في منافسات كأس الأمم الأفريقية بعد غياب الفراعنة عن البطولة 3 مرات متتالية، أضحت العودة إلى مصاف كبار أفريقيا بمثابة فرصة مثالية لإعادة الثقة المهتزة بين فئة لا يستهان بها من الشعب المصري والدولة المصرية التي جعلت الشعب ينفر من تصرفاتها وسياساتها الخاطئة. فمع انطلاق المباراة الأولى من البطولة، كان هناك توجه معين من قبل الحكومة المصرية يهدف لتوظيف الالتفاف الشعبي حول المنتخب من أجل تقريب المسافات بين الدولة والشعب وتحسين النظرة العامة من قبل المصريين لحكومتهم.

السيسي خلال تكريمه للمنتخب المصري

أصبح الجميع يحرص على متابعة المباريات عبر الشاشات الكبيرة التي وفرتها وزارة الشباب والرياضة في الساحات والمقاهي والمراكز الشبابية، حتى أصبحت مظاهر الاحتفال تعم الشوارع والقنوات الإعلامية التي هللت للمنتخب رغم تقديمه مستويات سيئة في بعض الأحيان، وخسارته للمباراة النهائية.

في نهاية الأمر استطاعت الدولة المصرية ولو بشكل نسبي ردم الهوة ورأب الشرخ مع شعبها من وجهة نظرها التي عبرت عنها من خلال إعلامييها، ذلك الأمر الذي تكلل بتكريم الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» للمنتخب بعد تأهله للمونديال الروسي في الشهر الماضي.


الصين وقطر: الكرة في خدمة السياسة

على عكس التجارب الديكتاتورية السابقة في التعاطي مع أهدافها والوسائل التي تستخدمها من أجل الوصول إلى هذه الغايات، كان للصين وقطر تجارب مميزة من خلال إدارة مشاريعها الرياضية بذكاء وحرفية، وبطبيعة الحال الطرفان متفقان على الهدف ذاته، الجميع يسعى لتكريس النفوذ السياسي من خلال الاهتمام بالرياضة ودعمها.

الصين و خطوة إضافية سعيًا للكمال

قبل عدة أعوام عبّر الرئيس الصيني «تشي جين بينغ» عن حبه لكرة القدم منذ الطفولة، وشجع الصينيين على ممارسة كرة القدم، وأكد جين بينغ أن رغبته هي تغيير حال الكرة الصينية، وجاء هذا التوجه بعد الخسارة المذلة التي تعرض لها منتخب الصين أمام المنتخب التايلندي بنتيجة 5-1، والتي صادف أن تكون في عيد ميلاد الرئيس.

فأعلن الرئيس الصيني أن اللعبة ستصبح جزءًا إلزاميًا في المناهج الوطنية بالمدارس، و أقرَّ خطة لتطويرها على مدى 10 سنوات تنتهي عام 2025، والهدف الرئيسي هو التأهل لكأس العالم واستضافة بلاده للبطولة، والهدف المنشود هو تحقيق بطولة كأس العالم. فالصين تسعى للظهور بشكل أفضل على الساحة العالمية، ولن تتمكن من الوصول لهذا الهدف إلا من خلال تطوير البنية التحتية للكرة الصينية وخلق قاعدة شعبية لكرة القدم هناك، ويتطلع الرئيس بذلك لتعزيز الوضع الاقتصادي والسياسي من خلال الرياضة، وتحويل الصين إلى قوة عظمى في عالم الكرة؛ لأنها تريد أن تكون مسيطرة وناجحة في كافة المجالات، وهدفها الارتقاء إلى مكانة تحظى فيها باحترام عالمي، وكرة القدم وسيلة جيدة لتحقيق هذا الطموح.

قطر والكرة: وسيلة لفرض الأمان

لم تكن كرة القدم والرياضة عمومًا تلقى اهتمامًا مماثلًا من الحكومة القطرية كالذي حصلت عليه منذ بداية الألفية الجديدة، فمع الرغبة السياسية الواضحة من قبل الحكومة القطرية التي تسعى فيها لتعزيز دورها في السياسة الخارجية سواء الإقليمية أو العالمية، أدرك القطريون أن الأموال وحدها لن تكفي لنيل ما يسعون إليه، وأن الطريق لتعزيز هذا الطموح سيكون أقصر من خلال الاستثمار المدروس في المجال الرياضي، والذي أصبح له دور نافذ وهام في العصر الحالي مع تحول الرياضة بشكل عام لصناعة رئيسية لها أثر كبير في المجتمعات وتوجهاتها، والهدف هو تجيير النجاح الرياضي لخدمة هذه الغايات.

حكومة قطر راهنت على الرياضة منذ البداية و اعتبرتها خيارًا إستراتيجيًا هامًا، وترى قطر أن دبلوماسيتها الرياضية بمثابة القوة الناعمة لحمايتها من الاضطراب الدائم في المنطقة، ومن أجل مواجهة دول تفوقها قوةً وتعدادً سكانيًا. فتنظيم الفعاليات الرياضية الكبرى، وزيادة حجم الاستثمارات في كافة أصقاع العالم، هو بعد أساسي لإستراتيجيتها ضمن الإستراتيجيات التي تتبعها في سياستها الخارجية. وتعتبر الحكومة القطرية أن الرياضة تلبي «حاجات عقلانية» بعيدة المدى، لذلك لجأت قطر دائمًا لاستضافة جميع الفعاليات الرياضية الكبرى، والهدف الأسمى هو خدمة توجهاتها السياسية من خلال تعزيز دورها في أماكن صنع القرار حتى لو كان بعيدًا عن المجالس السياسية والقصور الرئاسية.


محمد بن سلمان: ماذا لو؟

تتصدر السعودية المشهد السياسي في المنطقة بحكم القرارات الأخيرة التي أطاحت بأمراء وشخصيات سعودية بارزة على رأسها الوليد بن طلال وصالح كامل، وفي الوقت ذاته شهدت المملكة حضور الرجل الأبرز وبطل القصة محمد بن سلمان لمباراة منتخب بلاده أمام المنتخب الياباني ضمن تصفيات كأس العالم، بعد أن قام بشراء بطاقات المباراة وفتحه الأبواب بشكل مجاني أمام الجماهير.

محمد بن سلمان خلال حضوره مباراة اليابان والسعودية
محمد بن سلمان خلال حضوره مباراة اليابان والسعودية

بعد البحث بشكل سريع عن علاقة ولي العهد السعودي بالكرة من قريب أو بعيد، لم نجد أي شيء يستحق الذكر، وربما كانت مباراة السعودية واليابان هي الحادثة الأولى له ذات الصلة بلعبة كرة القدم، لكن ماذا لو كان محمد بن سلمان مهتمًا بكرة القدم؟، فكيف ستكون قراراته وتصرفاته في الشأن الرياضي؟، وكيف سيحاول خدمة توجهاته السياسية من خلال الرياضة؟.

حقيقة الأمر أن بن سلمان سيتركك في حيرة لأنه من الصعب تكهن ما سيقوم به رغم معرفتنا بطباعه وأفكاره. إحدى هذه الأفكار التي توازي نهجه المتبع في السياسة، ستنطبق على أرسنال وأرسين فينجر، ففي غالب الأمر سيقوم ولي العهد بشراء أرسنال من الأمريكيين بـ 400 مليار دولار، ويتخلص من الحرس القديم وسيعزل فينجر كما فعل مع عدد من الشخصيات السعودية البارزة، ربما سيواجه بعض المشكلات بوضع مورينيو بديلًا لفينجر على رأس الإدارة الفنية بعد إغرائه بالأموال. نعم، سينتهج السياسة السعودية ذاتها بمحاربة الإرهاب من خلال دعم الإرهاب. وفي النهاية سيسمح لمورينيو باستبدال حافلته وشراء أسطول جديد من الحافلات.

ليس بعيدًا أيضًا أن يقوم بن سلمان بشراء نادي مارسيليا الفرنسي للوقوف في وجه نادي العاصمة الباريسي لمواجهة ناصر الخليفي وتميم المجد، ولن نندهش حينئذ إذا أطلق الشباب السعودي على تويتر حملات عنوانها الرئيسي هو «لكم نيمار ولنا سلمان العزم».