يعد أدب السيرة الذاتية أحد الراوفد الهامة للكتابة الأدبية، بدأ منذ فترة مبكرة متزامنة مع الكتابة الروائية في العصر الحديث، ولعل أشهر روايات السير الذاتية هي رواية «الأيام» لعميد الأدب العربي «طه حسين» والتي نشرت أواخر 1929، وسار على درب طه حسين عدد من الأدباء المصريين نذكر منهم «أحمد أمين» حينما كتب سيرته الذاتية «حياتي»، وكذلك عباس العقاد في كتابه الذي يحمل بصمته الخاصة «أنا»، كما كتب إبراهيم المازني سيرته الذاتية في «إبراهيم الكاتب»، وكتب توفيق الحكيم «يوميات نائب من الأرياف»، و«عصفور من الشرق» وفيهما جزء كبير من سيرته الذاتية وحياته، وغيرهم الكثير.

ولم يتوقف عطاء الكتاب والأدباء من الكتابة في هذا النوع شديد الخصوصية والذي يكتسب أهمية خاصة لدى القرّاء إذ يقرّبهم من كتابهم وأدبائهم المفضلين، ويعرفهم على ظروف حياتهم ونشأتهم وما تأثروا به وأثروا فيه في حياتهم حتى وصلوا إلى تلك المكانة الأدبية المرموقة، بالإضافة إلى ما قد تحويه هذه اليوميات والمذكرات من اعترافات خاصة يحرص الكثير من القراء على معرفتها عن حياة الأدباء وعلاقاتهم، ولا شك أنها تكشف لهم أيضًا عن الكثير من أسرار الكتابة وكواليس الكتابة الأدبية وعلاقتهم بالمجتمع والناس.

لا تسير كتب السيرة الذاتية الأدبية على نظامٍ ثابت واحد، بل يسعى كل كاتبٍ وأديب إلى أن يضع بصمته الخاصة وطريقته فيما يكتب، فنجد بعضهم يلجأ إلى كتابة رواية أدبية صِرفة يمزج فيها بين واقع حياته والخيال، ويمكن للقراء والنقاد بعد ذلك استكشاف كون هذه الرواية سيرة ذاتية لكاتبها أم لا، كما نجد كتابًا يلجئون إلى كتابة شهاداتهم واعترافاتهم الخاصة جدًا في كتبٍ مستقلة وإن بقيت تحمل طابعًا أدبيًا مميزًا، وهكذا. نحاول هنا أن نلقي نظرة على أهم كتب السيرة الذاتية الأدبية التي صدرت لعدد من الأدباء والكتّاب المعاصرين.


التجليات – جمال الغيطاني

وهي رواية كبيرة في ثلاثة أسفار، مثّلت علامة فارقة في تاريخ السرد العربي، ليس فقط لاستخدام «الغيطاني» أجزاءً من سيرته الذاتية في تفاصيل الرواية، وإنما لاستلهامه التراث الصوفي بشكلٍ كبير بدءًا من عنوان الرواية إلى العديد من الاستخدامات اللغوية الخاصة والبناء الذي يتناص مع الكثير من عبارات أئمة المتصوفة مثل «ابن عربي»، و«البسطامي»، و«النفري» وغيرهم، واستطاع في سرده وروايته أن يجمع بين الواقعي المعاش في حياته الشخصية، وسرده للأحداث التاريخية قديمها وحديثها من «جمال عبد الناصر» وعلاقة مصر بإسرائيل إلى مأساة الحسين، وغيرها من أحداث.

كما أصدر الغيطاني عددًا من الكتابات الخاصة برحلاته العلاجية والتي تم جمعها في «كتاب الألم» الذي ضم مجموعات «الخطوط الفاصلة» و«مقاربة الأبد» و«أيام الحصر» التي كتبها في فترات مختلفة من حياته، ولكنها ظلت تحمل طابعًا واحدًا وجزءًا خاصًا من سيرة حياته، وكيف اقترب من الموت وواجه المرض.


الخبز الحافي – محمد شكري

أشهر روايات الأديب المغربي «محمد شكري»، ولعلها حازت شهرتها عندما ووجهت بالمنع والمصادرة، لما تحتوي عليه من جرأة في الطرح والتناول، إذ يحكي فيها «شكري» كل ما واجهه في حياته من صعوبات بسبب فقره، حيث عاش طفولة بائسة يتردد على المزابل، وفي مراهقته عاش في الحانات وبيوت الدعارة. يعرض «شكري» تفاصيل حياته الدقيقة بكل صدق وحيادية، ويكشف بسلاسة عن حياته وقسوتها وما كان يختلسه فيها من متع ومغامرات عابرة.

وتعد هذه الرواية بشكل خاص مزجًا بين أدب الاعترافات والسيرة الذاتية الخاصة بالكاتب، أكمل «شكري» أجزاءً من سيرته الذاتية أيضًا في كتابيه «الشطّار»، و«وجوه» وكان كل ذلك – كما يذكر- بدافع من صديقه الكاتب الأمريكي «بول بولز».


البئر الأولى – جبرا إبراهيم جبرا

يسرد فيها الروائي والمترجم الفلسطيني الكبير «جبرا إبراهيم جبرا» سنوات طفولته حيث تكوينه الأول بشكلٍ خاص، فتحدث عن بيته وأسرته، ومدرسته وجيرانه، ورهبان الدير الذي كان يذهب إليه، وكيف كان لكلٍ من هؤلاء أثر كبير وهام على تكوينه الأدبي، كما يضفِّر في سيرته الذاتية تلك لعدد من القصص والحكايات التي سمعها في طفولته وكيف كانت مؤثرة على وعيه وخياله الأدبي، كما تحدث عن حياته وحياة أقرانه وزملائه، وهكذا بقيت هذه السيرة كاشفة ليست فقط عن تكوين «جبرا» بل عن حياة الفلسطينيين في هذا الوقت وعلاقتهم بالتعليم والثقافة والأدب بشكلٍ عام، وهكذا ينتقل القارئ من الخاص إلى العام، وهو أحد الجوانب الهامة والبراقة في السير الذاتية بشكل عام.

اقرأ أيضًا: جبرا إبراهيم جبرا: الإنسان الكامل والفنان الكامل


أثقل من رضوى – رضوى عاشور

رحلة طويلة خاضتها الروائية والأستاذة الجامعية «رضوى عاشور» منذ سنوات شبابها وبداية التكوين الفكري والسياسي، حتى أصبحت واحدة من أعلام الحركة الأدبية المصرية، تحكي «رضوى» في هذا الكتاب أجزاءً من سيرتها الذاتية بينما هي في رحلة علاجية بأمريكا، كما تتعرض للثورة المصرية 2011 وكيف تأثرت بها وأثّرت فيها، كما تتحدث أيضًا عن الكتابة وعلاقتها بها، ذلك الاختيار الشاق في هذا الزمن، بأسلوبها الشيق وسردها الجذاب استطاعت أن تعبّر لا عن نفسها فقط بل وعن أحلام وآمال وآلام الكثير من المصريين في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ مصر.

اقرأ أيضًا: «رضوى عاشور»: مريمة وشمس وأخريات


رأيت رام الله – مريد البرغوثي

هي الجزء الأول من سيرة الشاعر الفلسطيني «مريد البرغوثي»، يحكي فيها تفاصيل رحلته الشاقة التي بدأها بخروجه من «رام الله» وسفره إلى مصر لمواصلة تعليمه، وما حدث أثناء النكسة 1967 من هزيمة نكراء جعلت من الصعب عودته إلى دياره مرة أخرى. كما يحكي علاقته بالروائية «رضوى عاشور» وقصة الحب التي بدأت بينهما وكللت بالزواج، وكيف بدءا معًا نضالهما السياسي في الشارع، وكيف أثّر ذلك عليه وجعل السلطات المصرية تطرده من مصر، ليعيش منفيًا فترة من الزمان.

بعد ذلك بسنوات وفي 2009 يكتب «البرغوثي» جزءًا آخر من سيرته الذاتية في صحبة ابنه «تميم» في كتابه «ولدت هنا.. ولدت هناك» والذي واصل فيه حكاية مأساته ومأساة الكثير من الفلسطينيين في المهجر، وما يجري لهم من آلام وما يلاقونه من صعوبات، حتى أن أقصى أمانيهم تكون أن يناموا على فراش نظيف!


السيرة الطائرة – إبراهيم نصر الله

بعد مشاريع روائية كبيرة، وتاريخ حافل بالكتابة السردية والشعرية، يخوض بنا الروائي الفلسطيني «إبراهيم نصر الله» تجربة مختلفة في كتابة السيرة من خلال كتابة مذكراته ومقابلاته مع عدد من أصدقائه الكتّاب الذين تعرّف عليهم عن قرب في رحلات مختلفة اكتشف من خلالها كيف قرّب بينهم الأدب والفن وجعلهم رغم ظروفهم نشأتهم وبيئاتهم المختلفة يلتقون في محبة الحياة والجمال.

تجدر الإشارة إلى أن «إبراهيم نصر الله» كتب سيرة مختلفة أخرى سمّاها «كتاب الكتابة» يفترض أن تصدر قريبًا، ويتناول فيها سيرته الثقافية بشكلٍ خاص وعلاقته بالكتابة والمؤثرات التي شكّلت وعيه منذ البداية حتى هذه اللحظة، كما تحتوي على عددٍ من شهاداته الخاصة حول تجربته الروائية والشعرية وقراءاته في السينما.


سيرة المنتهى – واسيني الأعرج

الذين قرؤوا للروائي الجزائري الكبير «واسيني الأعرج» يعرفون أنه يبث أجزاءً من سيرته الذاتية في عدد من رواياته، ولكنه هذه المرة قرر أن يفرد كتابًا خاصًا لحكاية سيرته الذاتية بشكلٍ خاص ومفصّل فأصدرها في كتاب من جزأين وسماها «سيرة المنتهى .. عشتها كما اشتهتني»، وفيها يعرض «واسيني» في هذا الكتاب سيرة حياته كاملةً منذ مولده ونشأته، وعلاقته بجده وأبيه، وكيف أثرا في تربيته ونشأته، حتى انتقل إلى مرحلة الشباب التي بدأ اهتمامه فيها بالأدب والكتابة، وعلاقات حبه القديمة وعلاقتها بكتابته، كما يتناول شخصيات أثّرت فيه وفي تكوينه الأدبي مثل «ميغال ثيربانتس» الذي كان يعيش في الجزائر، كما يعرض ويحكي في الكتاب عددًا من القصص والحكايات التي أثّرت في طفولته وشبابه، منتقلاً بين المؤثرات الواقعية التي عاشها والتاريخية التي قرأ عنها وتأثّر بها على حدٍ سواء.


السيرة في المنفى – بهاء طاهر

صدر هذا الكتاب في أواخر العام الماضي، ويسلك فيه الروائي الكبير «بهاء طاهر» مسلكًا خاصًا ومختلفًا في كتابة شذراتٍ وأطراف من سيرته الذاتية وحياته ورحلاته وعلاقاته، يبدأ من طفولته ونشأته المبكرة، ويقفز إلى سنوات الشباب في السبعينيات وأثرها في حياته وتكوينه الأدبي، ورحلاته أثناء عمله في الإذاعة بعد ذلك، وكيف بدأت علاقته في الغربة بـ«ستيفكا» التي ستصبح زوجته فيما بعد، كما يتحدث عن شعوره بالوحدة والغربة في مصر رغم عودته من المنفى الاختياري الذي كان فيه منذ التسعينات بكثيرٍ من الحزن والشجن، كما يتناول حكايات عن كتابته وتحويل روايته «خالتي صفية والدير» إلى مسلسل تلفزيوني، كل ذلك من خلال مقالات متصلة منفصلة بأسلوبه الأدبي المميّز ولغته الشاعرية الآسرة.


امرأة الأرق – ميرال الطحاوي

من الكتابة وأرق الكتابة تنطلق الروائية المصرية «ميرال الطحاوي» في كتابها «امرأة الأرق» الذي اعتبرته «سيرة ثقافية» لحياتها ومسيرتها الأدبية، إذ تبدأ فيه بحكايات علاقتها المبكّرة بالأدب، وقراءاتها الأولى للمنفلوطي، والعقاد، وطه حسين حتى وصلت لكافكا، وسارتر، وديسوتفيسكي، تحكي عن أبطال الروايات التي تأثرت بهم وبحكاياتهم عن روايات «نجيب محفوظ»، و«ميّاس»، «وموراكامي»، وكيف كانت تتلمس في كلٍ منهم دروب الكتابة، وكيف استطاعت في النهاية أن تنشئ لنفسها طريقها الخاص، معلنةً أنها تحب ذلك النوع من الروايات «المعقدة» التي تثبت لها أن الحياة أرقٌ دائم. تتحدث أيضًا عن بدايات كتابتها، وكيف كانت كتابتها مواجهة للعالم ومحاولة جديدة للكشف عن الذات والتعرّف عليها.

هكذا تعددت وتباينت كتب السير الذاتية الأدبية، وهكذا استطاع كل كاتبِ وأديب أن يعبّر عن نفسه ويحكي حكايته بطريقته الخاصة، مرة على شكل مذكرات ومرة على هيئة رواية أدبية يمزج فيها الخيالي بالواقعي، ومرة من خلال رصد نقاط التأثير والتأثر في مسيرة حياته الطويلة، وبذلك بقيت هذه الكتب في هذا المجال شديدة الأهمية والخصوصية زادًا حقيقيًا لكل كاتبٍ ويد أن يتلمّس طريقه نحو ذلك العالم المليء بالخبرات والتجارب والأسرار.