تبدو قضية الوطن من القضايا الأساسية والملحة لدى كثير من الروائيين والمبدعين العرب، لا سيما إذا كان هذا الوطن مكانًا للهم والقهر وضياع حقوق الناس، ولذا يكون على الروائي دومًا أن يبحث ويرصد ويدور حول طرق النجاة التي يسعى إليها الناس في بلادهم في سبيل الحصول على حقوقهم في الحياة والكرامة الإنسانية.

من هؤلاء الروائيين المهمومين بتلك القضية بشكلٍ خاص، ولا تكاد رواية من رواياته تخلو من بحث دءوب لبطله أو أبطاله عن معنى الوطن، الروائي الإريتري «حجي جابر» الذي حمل على عاتقه هم وفكرة تعريف العالم العربي بوطنه الذي لا يعرف الكثيرون شيئًا عنه وعن شعبه، وما دار ويدور فيه من ثورات، وما يعانيه مجتمعه من صراعات ومشاكل، وكيف يمكن أن يقضي الناس حياتهم فيه سعيًا للحرية، ولكنهم يموتون أيضًا في النهاية بطلقة رصاص.

في روايته الجديدة «رغوة سوداء» يخوض جابر تجربة روائية جديدة وفريدة في عالمٍ غير معروف أو مطروقٍ من قبل، عالم اللاجئين الإريتريين الهاربين من بلادهم بحثًا عن أملٍ في الحياة والحريّة، هؤلاء الذين اضطروا لتغيير دياناتهم والتحوّل إلى «اليهودية» بعد أن سمعوا أن ثمّة أرضًا موعودة «ليهود الفلاشا» يمكن أن يذهبوا إليها، ومن خلال حكاية «داود» المنزوع من بلاده الذي لا يعرف له أمًا أو أبًا، يسرد رحلة الألم والمأساة التي تعصف بهذا البطل الذي لم يكن بطلًا إلا في الرواية حتى نهاية رحلته المشئومة.

كانت رحلة يائسة لا تحتمل سوى خاتمتين، إمّا الوصول إلى الوجهة الأخيرة، أو القتل على يد رجال الأمن. ومع هذا فقد أقدم عليها داود حين تساوى عنده الموت والحياة في معسكر التجنيد الإجباري. لذا حين عبر الحدود برفقة عشرات، كان على خلافهم تمامًا، فقد توقّف لينظر وراءه. أراد أن يستشعر حقيقة النجاة، حقيقة مفارقة الإذلال إلى الأبد. هناك خلف تلك الجبال البعيدة التي استنفدت طاقته وهو يتسلق بعضها ويلتف خلف الآخر، تقع «إريتريا». ليس ثمّة حنين داخله على الإطلاق. كان الحنين يتساقط من روحه مع كل خطوةٍ يخطوها في الاتجاه المقابل. كان يتطهر بالبعد عن الوادي الأزرق، يفرغ رصيده من القهر في محاولة العودة إلى روحه قبل أن تلتصق بها النتوءات والندوب.

سعى «داود»، أو «ديفيد»، أو «داويت» (تبعًا لكل ديانةٍ ينتقل إليها) إلى الخلاص من حياته البائسة، ولكنه يفشل في كل مرة، رغم تحولاته السريعة، رغم حكاياته المقنعة، رغم قدرته على التلون على كل دين بلا أدنى شعور بالخطورة، لكن يبقى شعوره أن العالم يدفعه دفعًا إلى السطح كرغوةٍ سوداء يود الخلاص منها، لا ينجح في كل محاولاته للاندماج مع ذلك العالم الذي يبقى طاردًا له حتى النهاية.


السرد والانتقالات المدروسة

لعل أبرز ما يلفت انتباه القارئ في هذه الرواية هو إجادة الكاتب الانتقال ببطله بين زمنين وعدة أماكن، مستخدمًا عددًا من التقنيات السردية التي وضعها ببساطة أمام القارئ، فهو ينتقل بين ماضي «داود» وحاضره، دون استدعاء تاريخ محدد، ولكن فقط من خلال تغيير اسم البطل، إذ يعرف القارئ أن «داويت» هو البطل في العصر الحالي، وفي مكانه الذي ينتقل فيه من أديس أبابا إلى «إسرائيل» مباشرةً، أما الماضي فيحمل اسم «ديفيد» مرة و«داود» مرة أخرى ويتنقل مكانيًا بين مخيمات «إنداغبونا» و«غوندار» في «إريتريا»، و«الجبل الأزرق» وغيرها من مناطق الماضي بكل ما تحويه تلك الحكايات من ألم، وما عاشه فيها من صراعات.

اقرأ أيضًا: إريتريا.. حكايات العرب الذين لا يعرفهم العرب

جاء تقسيم الرواية كذلك إلى فصول قصيرة كعاملٍ مساعد لجذب القارئ لعالم الرواية وتفاصيلها المشوقة التي تأتي أحداثها متلاحقة متسارعة، في الوقت الذي حرص فيه «حجي جابر» على رسم الأماكن وتفاصيلها -لا سيما في «فلسطين»- بشكلٍ يجعل القارئ وكأنه يسير في دروبها ويرى بنفسه ملامحها ومعالمها البارزة، سواء المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة وغيرها من الأماكن التاريخية التي سمعنا عنها ولم يحالفنا الحظ لكي نراها ونفتن بها افتتان البطل وصاحبه.


الحكاية واللعب بين الخيال والواقع

منذ البداية سيكتشف القارئ أن هناك إصرارًا من الكاتب على توضيح مستويين من السرد، أحدهما تلك الحكايات الخيالية التي يرويها «داويت» للخلاص من موقفٍ أو أزمة يمر بها، يأخذ الحكاية طريقًا لاسترضاء من أمامه حتى يمنحه ما يريد أو يقنعه بحكايته، ولعل أبرز تلك الحكايات حكايته أمام الموظف الأوروبي الذي كان سيمنحه فرصة اللجوء إلى بلد أوروبية، ورغم أن الحكاية تستهوي «الأوروبي»، فإنه لا يمنحه ما يريد.

ويبدو أيضًا أن المسافة بين الحكاية الواقعية ومساحات الكذب والخيال أحد الشواغل الروائية الخاصة «بحجي جابر»، فقد سبق أن صاغ روايته السابقة «لعبة المغزل» كلها على فكرة الحكايات التي لا نعلم أيها الحقيقي وأيها المختلق، بل كانت مهمة بطلة الراوية أن تغير وتحرّف ما وجدته في الوثائق لتصنع حكاية مغايرة تمامًا لما هو حقيقي ومعروف، وكذلك نجد «داود» هنا يبرع في خلق الحكايات، ويبدو أنه اكتشف منذ وقت مبكِّر أن من حوله يحبون هذا الاستغراق في الحكايات، فلم يكن منه إلا أن يجيد حكاياته كل مرة ويترك القارئ حتى النهاية ليس على يقين مما حدث له، باستثناء آخر سطور الرواية التي يتدخّل فيها الكاتب ليوضّح جزءًا مهمًا من الحقيقة.

لم تقتصر الرواية على الحكاية المأساوية التي دار «داود» في إطارها، بل اتسعت لتشمل بحث الإنسان عن نفسه، وهويته، وسعيه الأسمى نحو الحب، وهل بإمكان لاجئ في هذه الظروف الاستثنائية الخاصة جدًا، وبينما يطارده الموت في كل لحظة، أن يبحث عن الحب، أو يفكر في الجنس؟ كيف يعيش حياته ويومه؟ كيف يتمكن من التغلب على رغباته ونزواته؟ واستطاع «حجي جابر» أن ينقل طرفًا من ذلك من خلال علاقة البطل بالشخصيات النسائية في الرواية، سواء كانت الحبيبة الحلم «عائشة»، أو الباحثة «سارة» التي واجهته بأسئلتها وجعلته يدور حول نفسه، ويفكّر بطريقة مختلفة.

في أعمق نقطةٍ لديه كان لا يزال «أدال»، ذلك الشاب المنتمي للجبال والأودية وحدها، للأماكن المنبتّة عن كل صلة، رغم ما أصبح يثيره هذا فيه من حزنٍ وإشفاق على نفسه. لا يعرف إن كان هذا جيدًا أم سيئًا كل ما يعرفه أنه أصبح على هذه الحال دون أن يكون له خيار، يشعر الآن أن الوقت قد فات ليكون منتميًا، والانتماء يحدث في جانبٍ منه لأمورٍ قلبية صرفة تتشكّل في البدايات فحسب.

تجدر الإشارة إلى أن الرواية تستند إلى عددٍ من الوقائع الثابتة تاريخيًا مثل فكرة هجرة «يهود الفلاشا» إلى «إسرائيل» وما حدث معهم، بالإضافة إلى بعض الأحداث الجانبية التي وردت في الرواية مثل هجوم رجال الأمن على اللاجئين السودانيين الذي اعتصموا أمام مسجد مصطفى محمود في القاهرة عام 2005 والتي نتج عنها وفاة عدد منهم، وسيتعرّف القارئ في آخر سطور الرواية على الدافع الذي جعل «حجي جابر» يكتب روايته كلها بمزيدٍ من الأسى والألم!

اقرأ أيضًا: يهود الفلاشا.. لا ملجأ من الجحيم إلا إليه

هكذا عكست «رغوة سوداء» وجهًا قبيحًا من وجوه الحياة في هذا العالم الذي لا يعترف بحقوق الأقليات، ولا يمنح الإنسان حق تحديد مصيره، واستطاع «حجي جابر» من خلال الرواية أن يوضح جزءًا مهمًا ومجهولاً من تاريخ شعب «إريتريا» وسعي أبنائه نحو حريتهم.

حجي جابر روائي إريتري، عمل بالصحافة بالسعودية، ثم انتقل للعمل في قناة الجزيرة القطرية. حصلت روايته الأولى «سمراويت» على جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2012، وانطلق بعدها إبداعه ليكتب «مرسى فاطمة» عام 2013، و«لعبة المغزل» عام 2015، «رغوة سوداء» هي روايته الرابعة.