بعيدًا عن أجواء العنف والأكشن والصراعات التي أصبح يحفل بها عدد من مسلسلات رمضان كل عام، يقدم مسلسل «ليالي أوجيني»، الذي أخرجه المخرج المتميز «هاني خليفة»، معزوفته الهادئة الخاصة التي تعود إلى مصر الأربعينات، وتقدم عالمًا أثيرًا يحن إليه الكثيرون ويتابعونه بشغف حيث التعامل الراقي واحترام العلاقات بين الناس، وحيث تحفل المناطق الساحلية في «بورسعيد» حيث تدور أحداث المسلسل بعدد من الجنسيات المختلفة التي تتعايش مع المصريين في محبة وسلام، وحيث يسود بين الناس جو من المحبة الهادئة لا تعكرها إلا بعض الأحداث العابرة.

منذ اللحظات الأولى في مسلسل «ليالي أوجيني»، ومع أغنية تتر المسلسل التي كتبها الشاعر «أمير طعيمة» وتغنيها بإحساس خاص جدًا الفنانة «نسمة محجوب»، يدرك المشاهد أنه إزاء مسلسل يتناول حكايات خاصة تدور حول قصص حبٍ مستحيل أو غير ممكن الحدوث، تلك الحكايات التي طالما تغنّى ودار حولها الشعراء منذ بكى مجنون ليلى على محبوبته ووقف غيره يبكون الأطلال، تقول كلمات الأغنية «حُبي ليك .. عين الغلط ..متأكدة» لنجد أنفسنا بعد الحلقات الأولى أمام قصة الحب الأساسية التي تنشأ بين «كريمة/كريمان» والدكتور «فريد» المتزوج رغمًا عنه من أرملة أخيه، والذين يبدأ الحب بينهما بسيطًا هادئًا ثم يأخذ في التطور.

اقرأ أيضًا:تترات المسلسلات: بين الإتقان والإبهار غير الموفق

ولكن إذا كانت هذه قصة الحب الأساسية التي يؤديها بطلا العمل الرئيسيان «أمينة خليل»، و«ظافر عابدين»، إلا أن هناك عددًا آخر من حكايات الحب التي تنشأ بين أبطال العمل الآخرين والذين يكشف المسلسل حكاياتهم تدريجيًا وبكل هدوء؛ إذ نستكشف علاقة الحب التي تجمع بين المغنية «جليلة» والجرسون «أمين» أثناء عملهما في «تياترو أوجيني».

كذلك قصة الحب التي تنشأ على استحياء بين صاحب الفندق «صدقي بيك» وكبيرة الخادمات «نعمات»، ثم هناك علاقة الحب التي تبدو كأنها انتهت ولكنها لا تزال مؤثرة بين أفرادها وهي العلاقة التي جمعت بين «عزيز» و«صوفيا»، ووقفت أم عزيز «ماجدة» رافضةً لإتمامها وها هي حتى الآن تحاول إبعاد ابنها عن تلك الحبيبة القديمة.


صور الحنين للماضي

أجاد مهندس الديكور «يحيى علام» ومصممة الأزياء المحترفة «ياسمين القاضي» نقل وتصوير المكان الذي تدور فيه أحداث العمل ليتفق تمامًا مع «مصر الأربعينات» كما عرفناها في الصور الفوتوغرافية وشاهدناها في أفلام تلك الفترة، حيث اهتم مهندس الديكور بتفاصيل البيوت والشوارع والسيارات وغيرها من خلفيات بصرية مهمة للمشاهد، كما اهتم بتصميم «التياترو» و«الفندق» والأماكن التي يلتقي فيها الأبطال سواء كان «مقهى صوفيا» أو «المطعم» وغيرها من الأماكن، ربما ساعده على ذلك كون الأماكن كلها في مدينة هادئة ساحلية مثل بورسعيد.

اقرأ أيضًا:انطباعات أولية في الدراما الرمضانية: الإخراج

كما جاء تناسق الألوان واختيارها بعناية ملمحًا بصريًا هامًا في المسلسل، كما كان لافتًا تصميم الأزياء خاصة «الفساتين» التي ترتديها كل طبقة، والفرق بين ملابس البيت وملابس العمل وغير ذلك من تفاصيل هامة تضع المشاهد في الحدث وتجعله يحن إلى ذلك الماضي الذي يتسم بالنظافة والرقي والجمال.

من جهةٍ أخرى جاء الحوار الخاص الذي يدور بين أبطال العمل من أهم عناصر القوة، حيث حرصت المؤلفتان «سماء عبد الخالق» و«إنجي القاسم» على الاهتمام بكتابة حوار خاص بطريقة كلام الناس في تلك الفترة، فظهرت ألفاظ مثل «ممنون» و«سعيدة مبارك» و«الصحة عال» وغيرها، بالإضافة إلى طريقة تعامل الطبقات المختلفة مع بعضها بشكل راقٍ ومهذب، بدا ذلك من تعامل «جليلة» مع مطربة التياترو الكبيرة «لولا» وكيف تكون حريصة على أن ترد عليها باحترام، وطريقة تعامل «صدقي بيك» مع الخادمات في الفندق وغير ذلك من مواقف.


مشاهد صامتة دالّة

أجاد مخرج العمل «هاني خليفة» استخدام المشاهد الصامتة المعبرة عن المواقف والأحداث في المسلسل أكثر من مرة، وذلك من خلال تصوير لقطات خاصة لبعض شخصيات العمل لا تحتاج إلى مزيد من الكلمات أو الحوارات وإنما فقط يضعهم في مشهدٍ بكادر خاص، مثل المشهد الذي يصور «عزيز» بعد وفاة والدته وهو يتذكرها كلما عاد إلى بيته، أو مشاهد تفكير الشخصيات في المواقف التي يمرون بها، بل ويحدث أن يجمع أكثر من شخصية في تتابع صامت يرسم به حالة خاصة لعلاقات الشخصيات ببعضها بشكل متتابع مع الخلفية الموسيقية الخاصة التي يعزفها «هشام نزيه» ببراعة تعكس روح العمل بدقة وشاعرية.


إعادة اكتشاف الممثلين

لعل أكثر ما ميز «ليالي أوجيني» أيضًا إلى جانب الديكورات الخاصة والموسيقى المميزة هو استعادته لاكتشاف عدد من الممثلين الذين كنّا نشاهدهم من قبل في أدوار عادية، ولكنهم قدموا في المسلسل أدوارًا مهمة لفتت أنظار المشاهدين وأسرت قلوبهم، من هؤلاء:

«إنجي المقدم» في دور «صوفيا» صاحبة الكافيه المصرية الإيطالية، والتي جمعتها علاقة حب قديمة بجارها ورفيق صباها «عزيز» ولكن والدته وقفت حائلاً دون زواجهما، لتتزوج من رجل آخر وتسافر عشرين عامًا معه ثم تعود إلى «بورسعيد» لتواصل العمل في «المقهى» الخاص بها وبعائلتها، وتعتبر حمامة السلام بين أبطال العمل.

اقرأ أيضًا:انطباعات أولية في الدراما الرمضانية: التمثيل

كذلك استطاع الفنان «مراد مكرم» أن يقدّم نفسه بصورة جديدة ومختلفة تمامًا في شخصية «عزيز» الحائر بين طاعته لأمه وحبه القديم «لصوفيا»، كما خطف قلوب المشاهدين بمشهد تأثره بموتها وأثر ذلك على حياته بعدها.

كما قدم الفنان «بطرس غالي» دورًا جميلاً هو «صدقي بيك» الباشا المقتدر المحترم الذي يحب سيدة بسيطة ولكنه لا يظلمها ولا يغمطها حقها، ويسعى أن يوازن بين حب ابنته الوحيدة له وبين ميل قلبه إلى «نعمات» تلك التي أحبها ولم يستطع أن يتخلى عنها.

أما «أسماء أبو اليزيد» فأعادت ترسيخ حضورها وازدادت تألقًا وجمالاً في دور المغنية «جليلة» التي مثّلت باقتدار دور المرأة الطموح التي تتغلب على مشاعرها لتحقق أهدافها ولا تجعل من علاقتها بأسرتها أو حبيبها عائقًا دون تحقيق آمالها وطموحاتها في الغناء، ويعد هذا الدور بمثابة اكتشاف ثانٍ لها بعد دورها الأول والمميز العام الماضي في مسلسل «هذا المساء» مع المخرج «تامر محسن».


بعض الأخطاء لا تُغتفر

بالرغم من الحرص الواضح لفريق العمل على إخراج المسلسل بشكلٍ لائق، لا سيما في الاهتمام بالديكورات والتصوير والموسيقى، واستعانتهم بفنانة تشكيلية من أجل كتابة الخطابات سواء التي كتبتها «أمينة خليل/كريمان » أو «ظافر عابدين/فريد» وغيرهما في المسلسل، إلا أنهم وقعوا في خطأ كبير لا يمكن أن يمر بسهولة، وذلك أثناء قراءة أبطال المسلسل للخطابات المكتوبة بالفصحى، خاصة في أحد المشاهد الرئيسية في المسلسل (لحظة اعتراف البطل بحبه للبطلة) حيث وقع الأبطال في عدد من أخطاء النطق والأخطاء اللغوية التي كانت ملحوظة جدًا وغير مقبولة.

كذلك كان من الأخطاء الكبيرة في المسلسل والتي أثارت لغطًا في مواقع التواصل الاجتماعي استخدام صورة «الملكة ناريمان» الزوجة الثانية للملك «فاروق» على أنها والدة «نبيلة» المتوفاة، ولا شك أن أخطاء كهذه ناتجة عن السرعة والتأخر في تصوير حلقات المسلسل الذي أصبح سمة عامة لكل مسلسلات رمضان.


حالة الحب والضياع

في النهاية استطاع المسلسل بعد تضافر كل عناصره واجتهاد الممثلين الواضح فيه على أن يقدم معزوفة هادئة ومختلفة عما اعتاده المشاهد في دراما رمضان، ونجح فريق العمل في نقل روح الشخصيات وحالات الحب والصراع الداخلي الذي يظهر بينهم، والذي يضع المشاهد دومًا في حالة من الحيرة والتساؤل لا سيما في علاقات الحب التي قد توصم بأنها «خيانة» لشريك الحياة، أو تلك العلاقات الأخرى التي يقف الفرق «الاجتماعي» حائلاً دون تحقيقها، أو علاقات أخرى تحول بين إتمامها الأحلام والآمال الشخصية، كل ذلك في سعي حثيث نحو السعادة وراحة البال التي تبدو عزيزة طوال الوقت وصعبة المنال، رغم كل الهدوء والسكينة التي تعم أجواء المسلسل وينعم بها أبطاله، ولعل المفارقة أن كل تلك المشكلات رغم اختلاف الزمن نجدها حاضرة وبقوة أيضًا في عالمنا اليوم رغم كل ما وصلنا إليه من تقدم وما حدث بين الناس من تغيرات!

تجدر الإشارة إلى أن المسلسل مأخوذ عن أصل إسباني هو مسلسل «أكاسيا»، كتبت له السيناريو والحوار «سماء عبد الخالق» و«إنجي أبو القاسم» في التجربة الثانية لهما دراميًا مع شركة الإنتاج «بي لينك» بعد نجاحهما في مسلسل «حلاوة الدنيا» العام الماضي.