كتب أوليفيه روا في كتابه «تجربة الإسلام السياسي» منذ أكثر من عقدين ونصف أن كل انتصار للإسلام السياسي سيكون سرابًا خادعًا، فتجربة الحركة الإسلامية لم تُحدث تغييرًا في عمق السياسة الشرق أوسطية فيما عدا التجربة الإيرانية، ومن ثم فقد أخفق الإسلام السياسي تاريخيًا.

اليوم، استطاع الإسلاميون في تونس تحقيق فوز هام في أول معركة انتخابية للبلديات بعد ثورة الياسمين، والتي أُجريت في السادس من الشهر الحالي. شهدت هذه الانتخابات نسبة مشاركة متواضعة بلغت 33%، وعلى الرغم من تراجع النهضة في الشارع السياسي التونسي، فإنه استطاع أن يحسم نتائج البلديات لصالحه على حساب نداء تونس. فكيف نجحت النهضة في الصمود وتحقيق فوزها؟


هندسة النهضة الجديدة

نحن أردنا أن نحفر قبرًا لندفن فيه كل الثارات والأحقاد ونتجه للمستقبل بقلوب صافية مطمئنة بدون غيظ، بدون حقد.
الشيخ راشد الغنوشي

شهدت حركة النهضة التونسية العديد من التحولات أدت إلى تغيير دراماتيكي في هيكلها وبنيتها الحركية لتتواكب مع السياقات الظرفية والسياسية القائمة. وسعى الغنوشي إلى وضع هندسة متنوعة لخيارات وسياسات النهضة التونسية، ساعدت على صمود التيار في مواجهة تحدياته عبر ثلاث مراحل زمنية.

المرحلة الأولى: منذ تأسيسها وحتى قيام ثورة الياسمين عانت النهضة الويلات التي هددت تواجدها وتنظيمها، سواء من قبل النظام الحاكم آنذاك أو من قبل المعارضة العلمانية المتشعبة في تونس، وعلى رأسها اليسار التونسي. وهنا تماهت سياسات وخيارات الغنوشي بين المعارضة حينًا والمهادنة حينًا، رغبةً في الانتشار القاعدي والبقاء التنظيمي.

المرحلة الثانية: مع اشتعال ثورة الياسمين سارعت حركة النهضة صاحبة الوجود الجماهيري الأوسع في تصدر المشهد السياسي في تونس، ونجحت في الحصول على الأغلبية البرلمانية التي مكنتها من كتابة الدستور التونسي الجديد وإدارة حكومة الفترة الانتقالية بقيادة حمادي الجبالي في السنوات الأولى من المرحلة الانتقالية.

تحولت النهضة من موضع المعارضة إلى موضع القوى السياسية الحاكمة، وهو ما جعلها في مرمى سهام المعارضة العلمانية اليسارية مستغلة بذلك استمرار حالة التدهور الاقتصادي والاجتماعي وعدم إحداث النهضة أي تغييرات جوهرية شاملة في تونس، وأخيرًا تُوج ذلك باتهام النهضة بالوقوف خلف اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد.

اقرأ أيضًا: بعدالأردن: هلينفصلإخوانتونسعنالتنظيمالأم؟

المرحلة الثالثة: استمرار حالة الاحتقان السياسي الداخلي في تونس وتوحُّد قوى المعارضة العلمانية في مواجهة النهضة، تزامن ذلك مع الحدث الأكبر حيث إسقاط نظام الإخوان المسلمين في مصر منتصف 2013، وهو ما دفع النهضة إلى إعادة ترتيب خياراتها وتنازلت عن إدارة الحكومة طواعيةً لقوى المعارضة مع احتفاظها بالأغلبية البرلمانية.

تبنت الحركة وقادتها منهاجًا مغايرًا لأطرها التنظيمية والفكرية، وقامت بإحداث مراجعات فكرية للتمييز بين ما هو دعوي وما هو سياسي. شهدت الحركة حالة من الانقسامات الداخلية حول تلك المراجعات، لكن نجح الغنوشي في إقرار تلك المراجعات، وتبنت الحركة خطابًا يؤسس لقيم التوافق وأعلت من شأن الحوار الوطني.

وعت النهضة الدرس المصري ولم تقدّم مرشحًا للرئاسة، لكنها عملت على الشراكة مع الحزب الحاكم «نداء تونس» في إدارة شؤون البلاد بعد انتخاب السبسي المحسوب على نظام بن علي رئيسًا لتونس الثورة.


رهانات النهضة

خيارات النهضة الجديدة سعت إلى تحقيق أكبر منفعة ممكنة من الأزمات التونسية القائمة، عمل الغنوشي وحركته على الاستفادة من ثلاث أزمات أساسية، هي أزمة تصدُّع وانشقاقات حزب نداء تونس وأزمة الإرهاب المتصاعد والحركة المطلبية الاقتصادية ومن بعدها قانون المصالحة.

اقرأ أيضًا: كيفتستفيد «النهضة» منالأزماتالداخليةفيتونس؟

وكلما تجددت الاحتجاجات والمظاهرات على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، سارعت النهضة إلى بيان موقف محايد منها، فإذ بها تعترف بأحقية التظاهر ، كما عبر عن ذلك عبد الحميد الجلاصي، القيادي النهضوي، في أعقاب احتجاجات يناير/ كانون الثاني 2018 في قوله:

من جهة أخرى سعت النهضة إلى دعم حكومة الشاهد ومساندة قراراته، داعية الشعب إلى التحلي بالصبر ومساندة الحكومة التونسية رغبةً في إنجاح التجربة الديمقراطية كما تعبر عنها دومًا النهضة.


طريق الغنوشي للقصر

من حيث الموقف منها نحن نتفهمها، فلا يمكن أن تلوم أحدًا خرج محتجًّا على ضنك العيش، كما أن الحق في التعبير عن وجهة النظر والحق في الاحتجاج كفله الدستور.

في واحدة من أبرز مفارقات الانتخابات البلدية التونسية كان ترشح سيمون سلامة، من أبناء الطائفة اليهودية في تونس على إحدى قوائم حركة النهضة، وهو ما يعتبره البعض درجة أكبر من انفتاح وحداثية النهضة، فيما يعتبره آخرون براجماتية واستغلالًا من قبل النهضة.

وبالرغم من تراجع النهضة في الشارع السياسي خلال السنوات الماضية، فإنها استطاعت أن تحسم نتائج الانتخابات البلدية، حيث حصلت على ما يقارب 27% من أصوات الناخبين الذين بلغت نسبتهم 33% من القوى الإجمالية للناخبين التونسيين. ويُعزا ذلك إلى قدرة الإسلاميين على حسم الانتخابات القاعدية على مستوى المحليات أو النقابات إذا ما أتيحت لهم المساحة، نتيجةً لقدرتهم على تقديم الخدمات الاجتماعية على المستوى المحلي. كذلك فإن تراجُع نسبة المشاركة للثلث أيضًا وتصدُّع القوى العلمانية المتناحرة أعطى النهضة فرصة أكبر لحسم النتائج.

النهضة تعتمد بشكل أكبر على الانتخابات البلدية ونتائجها كونها بوابةً لإعادة فتح المجال أمام الحركة لإظهار قدراتها المحلية بشكل أكبر، مما يسمح بتمدد قواعدها على غرار النموذج التركي. ويأتي هذا الانتصار مع اقتراب إجراء الانتخابات الرئاسية العام المقبل، وفي ظل الدور المتزايد لراشد الغنوشي على المستوى الداخلي والخارجي تزيد احتمالية تقديم النهضة مرشحًا رئاسيًا في الانتخابات القادمة.

وفي نهاية المطاف فإن الحكم بأن الإسلام السياسي أخفق تاريخيًا لم يعد على مستوى الدقة، فبعض التجارب الإسلامية التي حكمت لم تكتمل تجربتها كي يمكن الحكم عليها، لكن يجب النظر إلى التجربة في ضوء التحولات الأيديولوجية من الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية.