عُرف تيار ما سمي بالواقعية السحرية غربيًا مع بدايات القرن العشرين، ويرجع بعض الدارسين تحديد ذلك المصطلح للناقد الألماني فرانز روه الذي وضعه عام 1929 واصفًا به عددًا من الأعمال الفنية لرسامين ألمان ربطوا في رسوماتهم بين الواقعي والغرائبي. من هنا جاء ذلك التيار وعرف به أدباء «أمريكا اللاتينية» بشكل كبير، خاصة في كتابات بورخيس وماركيز وغيرهما.

وما إن وصل المصطلح إلى الكتابة العربية، حتى بدأ النقاد يجدون له أصولاً معروفة في كتابتنا الأدبية لاسيما تلك التي تتعلق بالحكايات الخرافية والأساطير الشعبية، والتي كان أوضح مثالٍ لها «ألف ليلة وليلة» تلك التي عرفها العرب وتأثروا بها، ولا شك أنها ظهرت بعد ذلك في عدد من الأعمال السردية لا سيما بعد انتشار الرواية عربيًا ومحاولات تطويرها واستلهامها للعديد من طرق الحكي الشعبي والخيالي والفانتازي وغير ذلك.   
في دراسته الرائدة والهامة للواقعية السحرية في الرواية العربية، يذكر الناقد والمترجم حامد أبو أحمد تحديدًا أكثر دقة لذلك التيار فيقول:

يظن بعض الكُتّاب في مصر والعالم العربي أن الواقعية السحرية ليست أكثر من الدخول في عالم الجن والعفاريت، وما إلى ذلك مما نسميه الجانب العجائبي في حياة الإنسان، والذي تمثله عندنا خير تمثيل قصص «ألف ليلة ليلة» وحواديت الجدات، ولكن الحقيقة أن المسألة أعمق من ذلك بكثير، سواء فيما يتعلق بتراثنا القصصي والإبداعات القائمة على رواية الأخبار والحكايات وغير ذلك، وبعضها يدخل في الكتابة التاريخية نفسها بوصولها إلى ذلك، أو فيما يتعلق بهذا التيار الجديد «الواقعية السحرية» الذي حظي خلال النصف الثاني من القرن العشرين بانتشار عالمي لا مثيل له.
في الواقعية السحرية ــ حامد أبو أحمد

 وهكذا أخذ الكتاب والنقاد يكتبون ويبحثون فيما يمكن أن يجمع بين تراث الحكي العربي القديم وبين الروافد الغربية، فوجدنا الباحثة أماني أبو الحسن تدرس الرواية السعودية والواقعية السحرية فيها (بين العودة للأصل والتأثر الأجنبي) وذلك على عدد من النماذج الروائية التي تنتمي للواقعية السحرية وتجمع في الوقت نفسه بين الحكايات العربية المعروفة وبين العوالم الفانتازية والسحرية التي نشأت نتيجة الاحتكاك والتعرف على الكتابات الغربية ذائعة الصيت لاسيما ماركيز وبورخيس، واستطاعت أن ترصد ذلك الأثر والتأثير لدى عدد من الروائيين السعوديين بدءًا بغازي القصيبي حتى رجاء عالم وعبده خال.

ووجدنا عددًا من الروائيين العرب يذكرون أثر الواقعية السحرية في كتابتهم، فها هو السوداني أمير تاج السر يؤكد هذا التأثير بشكلٍ واضح في مقالٍ له عن الأكثر تأثيرًا فيقول:

بالنسبة لتجربتي الشخصية، بوصفي كاتبًا يحسب على الواقعية السحرية وتوصف عوالمي بالغرائبية، أستطيع أن أقول إنني كنت من الذين استفادوا من جرأة ماركيز، من دون أن أتأثر بكتابته، وكانت تلك الكتابة التي توظف الواقع، وتوظف الأسطورة والحلم، في نفس الوقت. بعيدًا عن مائة عام من العزلة، وبقراءة الكتب العربية التي تخصنا، ما هي الكتب التي يمكن أن تكون قد أحدثت تأثيرًا كبيرًا في أذهاننا وعالمنا ككتاب وقراء ومفكرين، يمكن أن يكون شبيهًا بما أحدثته رواية ماركيز في العالم؟ أعتقد، وقد يختلف معي آخرون، أن ثمة أعمالاً كتابية صدرت في زمن القراءة الذهبي، الذي لم يعد موجودًا للأسف، أحدثت تأثيرًا كبيرًا، فتحت عوالم مغلقة في الكتابة، وأرشدت عددًا كبيرًا من الكتاب إلى طريق الكتابة الغامض.
أمير تاج السر

اقرأ أيضًا: جزء مؤلم من الحكاية .. الواقعية السحرية العربية

ولا شك أن الكتابة الروائية المصرية تأثرت بشكلٍ كبير بالواقعية السحرية، بل وجدنا عددًا من الروائيين يستلهمون في كتاباتهم ورواياتهم العديد من طرق الحكي التراثية، لا سيما في جيل الستينيات الذي اتجه فيه الروائيون لتجريب أنماط أخرى غير مألوفة في السرد، برز من بين هؤلاء الروائي (خيري عبد الجواد) في روايته (كيد النسا) بل وحتى مجموعاته القصصية مثل (قرن غزال) و(سلك شائك) وغيرها، والتي نلحظ فيها محاولاته الدائمة للجمع بين الموروث الشعبي والحكايات الخرافية سواء من ألف ليلة وليلة أو سير علي الزيبق وغيرهم وبين عوالم الواقعية السحرية الفانتازية المختلفة، فالأبطال عند خيري عبد الجواد يبدأون من لقطةٍ واقعية عادية ثم سرعان ما تحوّلهم المواقف والأحداث إلى أبطال مغايرين تؤثر فيهم الحوادث الغريبة الفانتازية وتحوّل سير الأحداث بالتالي تحولاً كبيرًا.

لم يكن هناك غيري فى الشارع، والظلام قد اشتد ساعده فرماني بأغنية تتحدث عن فوائد الاستحمام، فغنيت ولعلع صوتي في السماء الدنيا. أما المواصلات فقد انقطعت منذ حين، وكانت هناك عربة آتية من المنحنى المظلم مسرعة. وقفت أمام العربة فاتحًا ما بين ساقي فاردا ذراعي. فوقفت لي، مددت رأسي وعنقى عبر النافذة المفتوحة لأواجه السائق. دون أن أتكلم، ودون أن يتكلم، مد السائق يده إلى رأسي وعنقي، كانت يده تحمل سكينًا كبيرة لمع نصلها فى الظلام وجز رأسي وعنقي في مهارة فائقة، كنت أنظر إليه في دهشة وكان يضحك ويصفر بفمه.
من قصة الرأس ــ خيري عبدالجواد

وعن خيري عبد الجواد يتحدث الروائي والناقد (أحمد جاد الكريم) الذي أعد رسالة ماجستير عن الواقعية السحرية في قصص خيري عبد الجواد فيقول:

مرَّ (خيري عبد الجواد) بثلاث مراحل متأثرًا في البداية بالتراث الشفهي والحكايات الشعبية وفيها بدا أثر الواقعية السحرية من خلال القص الشعبي وحكايات الجان والعفاريت، وكل ما سمعه في طفولته من حكايات الجدات، وهي ليست عبارة عن تناص مع تلك الحكايات الخرافية فحسب، لكنها احتفاء بذلك الهامش المنسي في تاريخ الكتابة القصصية في المرحلة الواقعية، أيضًا التقط خيري عبد الجواد فكرة إيمان هؤلاء الهامشيين بتلك الخرافات وميلهم إلى تفسير الحوادث على هذا النحو الذي يصل في بعض الأحيان إلى اليقين مُعرضين عن التفسيرات الأخرى التي تستند إلى براهين علمية. في المرحلة الثانية استثمر عبد الجواد محكيات التراث المكتوب المتمثل في ألف ليلة وليلة الذي عكف على قراءته وتأمل سردياته بشكل عميق، ونتج عن تلك المرحلة روايتان مهمتان هما العاشق والمعشوق ومسالك الأحبة. أما المرحلة الأخيرة فهي السيرة الذاتية للكاتب نفسه، واستدعت معها لغة عصرية شديدة الاحتفاء باليومي والمعيش، وما يدور على ألسنة الناس من ابتذالات وممارسات مغرقة في عفويتها، وظف في تلك المرحلة سير الأولياء وكراماتهم، وسير الأبطال الشعبيين والشطار والعيارين، وأيضًا السحر والشعوذة المنتشرين في الأحياء الشعبية.

ولا شك أن روايات (خيري شلبي) قد مثّلت تطورًا وثراءً كبيرًا في تناول الواقعية السحريّة والاقتراب منها بشكلٍ كبير في مصر، حيث جاءت روايات مثل (الشطار) و (الأمالي) و (صالح هيصة) وغيرها خير مثالٍ لذلك النوع من الكتابة الروائية الذي ينزع إلى أسطرة الواقع والانطلاق من خلاله إلى آفاق خيالية وفانتازية أكثر رحابة، وهي السمة التي طبعت الكثير من روايات خيري شلبي بالفعل.

اقرأ أيضًا: خيري شلبي .. رائد الواقعية السحرية المصرية

مؤخرًا ظهر عدد من الروائيين الشباب الذين سعوا إلى تقديم رؤية جديدة ومختلفة في عوالم الواقعية السحرية، نذكر منهم الروائي والمترجم أحمد عبد اللطيف، وطارق إمام، وأحمد الفخراني، وغيرهم.

يتحدث أحمد عبد اللطيف عن الواقعية السحرية فيقول:

إن الواقعية السحرية تيار مثل أي تيار أدبي آخر، يولد ويتطور ويتخذ أشكالاً مختلفة. هو بالأساس منظور فني يلتقي بالفلسفة المثالية ويؤمن بالميتافيزيقي والغريب ولا يصدق أن العالم هو فقط العالم المادي الذي نعيشه يوميًا. هذا التيار لقي تسميته في أمريكا اللاتينية، لكن أفكاره وفلسفته كانت موجودة في السرد العربي التراثي من ألف ليلة لبدائع الزهور. ورغم أن قوته جاءت مع كتاب أمثال ماركيز لأنه استخدمه في إطار سردي حديث، إلا أن له أشكالاً أخرى مع سلمان رشدي في الهند وبن أوكري في نيجيريا، وله تجليات عند كتاب مصريين مثل يحيى الطاهر عبد الله وخيري شلبي، لكن بشكل أضعف.

وهذا التيار لا يزال موجودًا بالطبع مثل أي تيار آخر، لكن ما يحدث في العالم العربي أنهم يطلقون الواقعية السحرية على أي تيار غرائبي، والحقيقة ان الواقعية السحرية مجرد خط واحد داخل الغرائبية. أما سبب نجاحه في الغرب فلأنه كان مجددًا في شكل كيف نحكي الحكاية، وتلقاه العالم العربي لأنه يتماس مع تراثنا، كما أنه كُتب في سياق أسئلة السلطة وهو سؤال يهمنا لسياقنا السياسي. في النهاية، أنا لا أصنف كتابتي بأنها واقعية سحرية، أو للدقة هذا الاتجاه يظهر في كتابتي بجانب تيارات أخرى وعناصر سردية متنوعة، ما يعنيني هو خلق عالم بديل أو موازٍ.

ربما تكون تجربة طارق إمام الأكثر ثراءً وتنوعًا خاصة لاقترابه من أوساط الشباب من جهة، ولكونه مهتمًا بأن يجرب في كل عملٍ له طريقة جديدة في تقديم عالم خاص به يتداخل بشكل كبير مع الواقعية السحرية، نجد ذلك في رواياته (الأرملة تكتب الخطابات سرًا) حيث استطاع أن يجمع بين الكتابة البوليسية التشويقية وبين عوالم الرواية الغرائبية، وكذلك ما فعله في رواية (ضريح أبي) التي سعى فيها لتفكيك الموروث الديني والاجتماعي المتعلق بمكانة الأب المقدسة، وجعل شخصيات الرواية وعالمها لا ينتمي إلى زمان ومكانٍ محددين بل بدا أنهم من عالمٍ مختلق بالكامل.

وربما يكون التجلي الأكبر لعالم طارق إمام وتجربته السردية ومقاربته بين الواقعية السحرية وعوالم ألف ليلة وليلة قد اكتملت تمامًا في مجموعته (مدينة الحوائط اللا نهائية) حيث وجدنا ذلك العالم شديد الخصوصية الذي يحوي الأساطير والخرافات والحكايات الغرائبية والذي استطاع طارق إمام أن ينسجه من خلال قصص قصيرة متصلة منفصلة، وأن يبني من خلاله عالمًا شديد الجاذبية والتأثير.

اقرأ أيضًا: مدينة الحوائط اللانهائية معادلة الإيهام واللاإيهام

ولا شك أن التجارب الأدبية العربية والمصرية أكثر ثراءً من الأسماء التي ذكرناها، بل إن بعض النقاد يشيرون إلى أن نجيب محفوظ كتب في (رحلة ابن فطومة) و (ليالي ألف ليلة) متأثرًا بأجواء الواقعية السحرية، كما ظهرت في بعض أعمال (أحمد أبو خنيجر) و(محمد مستجاب)، وغيرهم.