نحفظ جميعًا البيت الشعري المشهور المكرور الذي يتحسرُ فيه الشاعر على سنوات شبابه الضائعة، ويشكو إليها ما فعلته به الشيخوخة في أرذل العمر، ولا يزالُ أكثرُنا يرتبك ويتوتَّر عندما يُسأل عن عُمره، لأن هذا السؤال يُذكِّرنا بتقدم السنين، والذي نخشى معه ليسَ شيخوخة الجسم فحسب، إنما كذلك انحسار الطاقتيْن النفسية والعاطغية، وزوال أسباب السعادة والسرور. بل في الزمن الصعب الذي نعيشه، ذي الضغوطات الكثيفة والإحباطات الهائلة، أصبح الكثير من الشباب يشكون من شعورهم بفقدان الشغف في الحياة وتفاصيلها، وشعورهم بالشيخوخة النفسية والعاطفية.

لكن، هل من الحتمي أن تتضاءل السعادة بمرور السنين وتقدم العمر؟!

في دراسة واسعة شملت أكثر من 1.7 مليون إنسان من 166 دولة حول العالم، عن معدل الرضا عن الحياة على مقياس يتراوح من صفر إلى 10، كان متوسط معدل السعادة في عمر العشرين حوالي 5.8، بينما انخفض قليلًا في سن السبعين إلى 5.4. لكن تلك النتائج لا تجعل من المؤكد أن يحدث مثل هذا الانخفاض الطفيف في معدلات السعادة والرضا لدى الجميع مع التقدم في العمر، ومثل هذا الانخفاض النفسي المحدود يمكن ببعض الجهد والتفكير الإيجابي الذي يُترجم إلى أفعالٍ وعادات، أن نتغلَّبَ عليه ونعكس الاتجاه، فيتحسن معدل الرضا والسعادة.

تعريف السعادة تعريفًا جامعًا مانعًا من الأمور التي لا يمكن حسمها، فهي أمر نسبي للغاية يتباين من شخصٍ لآخر، ومن مجتمع لمجتمع، ومن ثقافة لأخرى. لكن ما يمكن أن يجمع بين كل التعريفات المتنوعة للسعادة هو أن يحمل الشخصُ مشاعرَ أفضل تجاه نفسه وحياته، وكذلك أنْ يستطيعَ القيامَ بأكبر قدر ممكن من المهام الحياتية والاجتماعية رغم التقدم في العمر. وسنركز في الفقراتِ التالية على كيفية الحصول على تلك السعادة والحفاظ عليها.

1. الحفاظ على القدرات الذهنية والعقلية

الشعور بانحسار القدرات الذهنية -مثل التفكير وسرعة البديهة والذاكرة … إلخ- من أكبر المُنغصات التي يعاني منها الكثير من المتقدمين في العمر. وبالتالي، فالحفاظ على أكبر قدر من القدرات والمهارات الذهنية في العمر المتقدم، من أفضل ما يدعم الصحة النفسية. وأوجب ما يفعل المرء لتحقيق ذلك هو الوقاية من الإصابة بجلطات المخ، ويكون هذا بالسيطرة على عوامل الخطر العديدة التي تؤدي إليها مثل ارتفاع سكر الدم وضغط الدم، وكذلك ارتفاع الكولسترول بالدم، والتدخين … إلخ.

اقرأ:  هل يمكن تجنب الإصابة بالألزهايمر؟

اقرأ: دليلك الشامل للتعامل مع حالات الطوارئ الطبية الحرجة

2. العمل والأسرة

قد يتصوَّر الكثيرون منا أن التقاعد مع تقدم العمر هو أساس السعادة، لكن تخبرنا الأدلة العلمية المتاحة بالعكس تقريبًا. فقد وجدت بعض الدراسات أن استمرار الإنتاجية في العمل قد يحافظ على السعادة ويُعزز الرضا عن الذات والحياة، ويُقلل الشعور بأن أيام الطاقة والنشاط قد ذهبت بغير رجعة. وقد لوحظ تأثير إيجابي مُشابه للارتباط العاطفي المستقر كالزواج، لا سيما عندما يكون الزوجان على وفاقٍ.

3. الرياضة للجسم وللنفس

تساعد الرياضة المنتظمة على الحفاظ على قدرٍ جيد من اللياقة البدنية والقوة العضلية، وهذا يساعد المتقدمين في العمر على الحركة بشكلٍ سليم، وتجنب السقوط أرضًا والإصابات التي قد تنجم عن هذا، لا سيما إصابات الرأس التي قد تسبب الإعاقة أو الإصابة بالذهان، وقد تؤثر بشكلٍ جسيم على الوظائف العقلية للمخ مثل الذاكرة والتركيز والحساب … إلخ. كذلك تساعد ممارسة الرياضة في الحفاظ على الصحة النفسية وتحسين الحالة المزاجية، ورفع كفاءة وظائف المخ كالذاكرة والتركيز، وتقليل فرص الإصابة بالأمراض العقلية المزمنة مثل خرف الشيخوخة والألزهايمر.

ولا يُشترط ممارسة رياضة قوية كالسباحة أو ألعاب القوى، إنما خيرُ الرياضة أدومُها وإن قل. فمجرد المشي ولو لربع ساعة بشكلٍ يومي أو شبه يومي، يمكن أن يُحدِث فارقًا ملموسًا. ويُمكن لممارسة الرياضة بشكل جماعي مع الأسرة أو الأصدقاء أن يُضاعف من مزاياها الإيجابية، وأن يضمن المواظبة والاستمرارية والفاعلية.

4. الغذاء الصحي

المعدة بيت الداء، وبيت السعادة أيضًا إن أردنا لها ذلك. الطعام الصحي المعتمد على الفواكه والخضروات والأسماك والألبان قليلة الدسم والبقوليات وزيت الزيتون واللحوم الحمراء باعتدال، مع تحجيم السكر والملح كليهما، كفيل بأن يحافظ على سعادة حقيقية مستديمة، حيث يُحسِّن النشاط، ويرفع اللياقة البدنية والنفسية، ويحافظ على الوزن إن لم يساهم في إنقاصه، ويُقلِّل فرص الإصابة بالأمراض المزمنة المؤرقة مثل الضغط والسكر وشرايين القلب … إلخ، فتلك الأطعمة الصحية غنية بالقيمة الغذائية مع سعرات حرارية معتدلة، ومكتظة بالفيتامينات والأملاح ومضادات الأكسدة لا سيما الأسماك والفواكه والخضروات، وتلك المُغذيات المفيدة تحسن كفاءة جهاز المناعة، وترفع الحالة المزاجية بشكل معتدل وأكثر استدامة، وتوجد بعض الأدلة العلمية أنها قد تقلل فرص الإصابة بالألزهايمر.

اقرأ: الشوفان: هل هو غذاء سحري؟

اقرأ: دليلك لحمية غذائية غير مؤلمة

5. الحفاظ على الهوايات

من أبرز ما يُجدِّد الشباب والسعادة الحفاظ على وقتٍ مقدس لممارسة الهوايات كالقراءة والكتابة الإبداعية والسفر وممارسة الرياضة والغناء والألعاب العقلية كالشطرنج … إلخ، لا سيما تلك التي بدأت في العمر المبكر حيث الصبا وشغف الشباب، فهذا يُخرج المرء من مساحة التمحور السلبي حول فكرة أن العمر قد مرَّ وأن الشباب قد ولى، ويصل ما فات بما هو آتٍ.

وهناك أدلة قوية على أن ممارسة الهوايات، لا سيما تلك الإبداعية، والتي تحتاج إلى بعض التفكير وتنشيط المخ، يلعب دورًا مهمًّا في الحفاظ على سلامة المخ، وفي تحسين الرضا عن الذات والحياة.

6. تجنب العزلة الاجتماعية

من أبرز ما يمكن أن يُحافظ على السعادة، ويُعزز الصحتين النفسية والجسدية للمتقدمين في العمر، تجنب الوحدة والعزلة الأسرية والاجتماعية، ويحدث هذا بالتفاعل المتواصل مع الأهل والأصدقاء، وبمشاركتهم في المناسبات والأنشطة المختلفة في جد الحياة وهزلها. وبدلًا من الشكوى من انشغال الأهل والأصدقاء في أعمالهم وواجباتهم، فالأولى صناعة دوائر اجتماعية بديلة، بالاشتراك في العمل التطوعي على سبيل المثال، أو البحث على مواقع التواصل عمَّن يشاطروننا بعض الهوايات كالقراءة مثلًا أو الرياضة، والتقابل معهم بشكلٍ منتظم. 

والحد الأدنى من تجنب العزلة الاجتماعية يكون بالتواصل اليومي أو شبه اليومي مع دوائر الأهل والأصدقاء والمعارف القريبة، على مواقع التواصل وتطبيقات المحادثة. 

7. السفر

لم يُبالغ الإمام الشافعي وهو يُعدد في شعره فوائد السفر الخمسة، عندما بدأ بـ (تفرُّج الهم). السفر لا سيما في أحضان الطبيعة الرائعة هو بهجة للقلب والعقل والروح. ولا يلزم أن يكون السفر مرهقًا أو مكلفا، فيمكن لجلسة صافية في الهواء الطلق مع الأصدقاء على رأس حقلٍ يتلألأ باللون الأخضر، أن تجدد الشباب والسعادة لأسابيع تالية.

ويمكن لرحلةٍ روحانية مميزة مثل أداء شعيرتي الحج والعمرة أن تُحدث فارقًا نفسيًّا كبيرًا، وأن تصنع للمرء الكثير من الذكريات الإيجابية التي يتزود بها لشهورٍ لاحقة في فترات الضغط النفسي والتراجع المزاجي. 

اقرأ: فلسفة السفر في شعر الإمام الشافعي

8. الهجرة إلى بيئةٍ أفضل

في الفقرة السابقة أشرنا إلى السفر المؤقت القصير لغرض الترفيه أو المتعة الروحانية … إلخ. لكن في بعض الأحيان يكون السفر الدائم أو الهجرة شرطًا للحفاظ على السعادة مع تقدم العمر، فالبيئة المحيطة وطبيعة بعض البلدان تساعد على ازدهار تلك السعادة، بينما غيرها يجعل تلك المهمة بالغة المشقة.

على سبيل المثال، وجد الباحثون أن الإقامة في بعض البلدان الغربية الهادئة مثل كندا وأيرلندا وأستراليا ونيوزيلندا يساعد على تحسن مستويات السعادة والرضا مع تقدم العمر، بينما لوحظ العكس في دولٍ غربية أخرى رغم كونها متقدمة مثل فرنسا وإسبانيا ودولة الكيان الصهيوني، وأيضًا لوحظ انخفاض معدلات السعادة بتقدم العمر في العديد من البلدان النامية مثل صربيا والبوسنة ورومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وقبرص الشمالية.