المهرجانات الكبيرة تتطلب اختيارات كبيرة، هل تذهب إلى مشاهدة فيلم جميل سينمائيًا، أم تتجه لمؤتمر صحفي لنجم محبوب للغاية، الأفلام التي نتخلى عنها أثناء اختيار جدولنا اليومي، والأفلام التي تفرض نفسها علينا بشكل مفاجئ أثناء اليوم، الأفلام التي ترفض كل الصدف أن تسمح لنا بمشاهدتها، والأفلام التي تدفعنا للدخول في شجارات كلامية بعدها.

هذه هي عصارة النصف الثاني من أيام مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته السبعين، الدورة التي سجلت رقماً جيداً على مستوى الحضور الجماهيري، 330 ألف تذكرة مباعة تجعله مرة أخرى المهرجان السينمائي السنوي الأعلى جماهيرياً على مستوى العالم، بالإضافة لكونها الدورة التي استمرت من خلالها برلين في التربع على عرش المهرجانات صاحبة أكبر عدد من الأفلام التي أخرجتها نساء ضمن مسابقتها الرسمية، برلين أيضا تتفرد بكونها المدينة الصاخبة المليئة بالحياة التي يهتم سكانها ومهرجانها بحقوق البيئة، هنا لا يشرب زوار المهرجان مشروباتهم في أكواب ورقية ثم تتراكم القمامة، هنا يتجول الجميع وهم يحتفظون بأكوابهم الشخصية في جيوب معاطفهم، يحاول الجميع الحفاظ على موارد كوكب الأرض، في نفس التوقيت الذي يهرول الجميع للحاق بفيلم جديد قد يوفر إجابة سؤال «ماذا شاهدت في برلين؟».

من هرولة المعجبين الأوروبيين للتصوير مع نجوم مكسيكيين يتعرض أبناء جنسهم للتنمر والعنصرية من الرجل الأبيض في أزقة أخرى من العالم، عروض يتخللها أصوات السعال المخيفة وسط ذعر كورونا الذي يجتاح الدنيا، مروراً بحلم ألماني جميل يختلط فيه الواقع بالفانتازيا، أسر تجتمع لتشاهد عالم بينوكيو الحلو والمر، وأخيراً الختام مع أسد ذهبي توج به رجال ونساء إيرانيات صنعوا فيلماً عن حق الإنسان في الاختيار، وعواقب هذا الاختيار، الذي تغيب بسببه مخرج الفيلم عن منصة التتويج، هذه هي رسالة برلين 2020 الأخيرة.

فيلم «Undine» والحلم الألماني

الفيلم الأجمل في المهرجان، والذي استحق عن جدارة جائزة أفضل فيلم من الاتحاد الدولي لنقاد السينما، هو الفيلم الألماني Undine من إخراج أحد أبرز المخرجين الألمان الحاليين «كريستيان بيتزولد» ومن بطولة «فرانز روكوفسكي» و«باولا بيير» التي انتزعت الدب الفضي لأفضل ممثلة في ختام المهرجان.

في صباح يوم عرض Undine كان المؤتمر الصحفي للنجم الإيطالي المحبوب «روبرتو بينيني» في نفس التوقيت، روبرتو رجل يشع بهجة وحب وأمل، هو تماماً كما يتذكره الجميع في احتفاله الأسطوري بالفوز بالأوسكار التي سلمته له صوفيا لورين في عام 1999، مر أكثر من 20 عاماً وروبرتو يحمل نفس القدر من الحب والبهجة. في هذا المؤتمر الصحفي حكى روبرتو أن فرانسيس فورد كوبولا عرض عليه من قبل لعب دور جيبيتو صانع بينوكيو في فيلم من إخراجه، الفكرة كانت منذ 20 عاماً بالتمام والكمال، في عشاء دعا إليه المضحك الراحل روبن ويليامز، لكن المشروع لم يكتمل فيما بعد.

الاختيار كان في النهاية بالتخلي عن المؤتمر الصحفي، حتى لو كان أمام هذا الرجل البديع، والذهاب لقصر البرلينالي لحضور العرض الصحفي لفيلم كريستيان بيتزولد، القدر كان هنا رحيماً، فحكاية بيتزولد المبينة على القصة الأسطورية عن أصل عروسة البحر، قدمت لي شخصياً أفضل لحظات المهرجان على المستوى العاطفي والسينمائي، في كل عام نعجب بالعشرات من الأفلام، لكن فيلماً واحداً يلمسنا بشكل شخصي ويظل عالقاً بالذاكرة لفترة طويلة، Undine هو الجواب، هو الحلم الألماني الحقيقي في هذه الدورة من المهرجان.

الحلم الألماني الآخر الذي تحدث عنه الجميع في برليناله 2020 هو بالطبع حلم المهاجرين الذي يتحطم على صخرة العنصرية، والذي قدمه المخرج الألماني برهان قرباني في فيلمه Berlin Alexanderplatz، والذي رفضت كل الصدف أن تسمح لي بمشاهدته، آخرها كان حينما وصلت متأخراً، ليتم إغلاق القاعة قبل وصولي، ولأقابل على أبواب السينما مخرجاً مصرياً شاباً يعيش في برلين حالياً ويقوم شخصياً بصناعة فيلم أيضاً عن المهاجرين في برلين، اعتبرت الحكاية التي رزقني الله بها على لسانه تعويضاً مناسباً عن فيلم برهان قرباني الذي تحدث عنه الزميل محمد طارق في رسالتنا السابقة.

سينما Zoo Palast قبل لحظات من فتح الستار لعرض فيلم Pinocchio
سينما Zoo Palast قبل لحظات من فتح الستار لعرض فيلم Pinocchio – تصوير حسام فهمي

على عكس ألكسندر بلاتس، ففيلم بينوكيو، ضمن العروض الخاصة بالمهرجان، قد أعادته الأقدار لي لأشاهده في يوم ختام المهرجان، اليوم الذي يطلقون عليه هنا «يوم الجماهير» حيث أسعار تذاكر مخفضة وتذاكر أقل مخصصة لصناع السينما والنقاد، نصيب الأسد يذهب للجمهور في يومهم، كان العرض في قصر حديقة الحيوان Zoo Palast – أجمل سينمات برلين- وقد كان مكتملاً عن آخره، أسر وأطفال من كل الأعمار، يشاهدون معالجة المخرج الإيطالي «ماتيو جاروني» لحكاية الأديب الإيطالي «كاريو كولودي»، هنا نعود للحكاية الأصلية، بحلوها ومرها، مرها الذي حذفت منه ديزني كثيراً حينما حولت الرواية لقصة رسوم متحركة، الفيلم في النهاية وإن كان موجهاً للأطفال، إلا أنه يترك شعوراً عميقاً وحقيقياً برابط الأبوة والبنوة، رابط يأتي فطرياً لكنك عقب ذلك عليك أن تبذل مجهوداً مضاعفاً للحفاظ عليه، الفيلم يذكرنا أيضاً بعوالم ماتيو جاروني الخيالية المبهرة بصرياً، التي يسكنها في أحيان كثيرة وحوش تشبه وحوش المكسيكي الممتع غواليرمو ديل تورو.

ذعر فيروس كورونا والخوف من الأجانب

نستمر مع العروض الخاصة أيضاً، هذه المرة مع فيلم من إخراج البريطانية سالي بوتر، وبطولة الطاقم التمثيلي الأشهر في المهرجان، خافير بارديم، سلمى حايك، وإلا فاننج، الفيلم عن كاتب مكسيكي هاجر إلى أمريكا منذ سنين، ترك حبه الأول وذكريات أسرته الأولى حينما غادر، ولكنه حينما يبدأ في فقدان ذاكرته عند الكبر، لا يتذكر أثناء أيامه التي يقضيها بين عيادات الأطباء سوى ما تركه، ترافقه في رحلته ابنته الأمريكية -تقوم بدورها إيلا فاننج- حيث تبدو أنه الشيء الوحيد الذي يربطه بهذا العالم الأبيض، العالم الذي تصرخ فيه إحدى النساء في وجهه قائلة «ارحل عن بلدنا أيها المكسيكي القذر».

ينتهي الفيلم ويبدأ المؤتمر الصحفي، القاعة مزدحمة أكثر من أي مؤتمر صحفي آخر طوال المهرجان، أكثر من مؤتمر جوني ديب، أكثر من مؤتمر روبرتو بينيني، وأكثر بكل تأكيد من المؤتمر الصحفي الذي أعقب الفيلم الإيراني الفائز بالدب الذهبي، قوة الشهرة تصنع هالة مضيئة حول خافيير بارديم وسلمى حايك، الإسباني والمكسيكية من أصل لبناني، عقب المؤتمر الصحفي يهرول الرجال والنساء الألمان – المعروفون بصرامتهم وجديتهم- حول سيارات النجمين اللاتينيّين لمحاولة التقاط صورة معهم، مع الأجانب أصحاب البشرة البُنية، في نفس التوقيت الذي يحاول اليمين الألماني الفوز بالانتخابات لطرد كل المهاجرين والملونين من أرضهم البيضاء.

على جانب آخر فذعر كورونا لم يؤثر على حضور المهرجان بشكل مثير للدهشة، المئات بل الآلاف يجتمعون يومياً في قاعات عرض مغلقة، تتعالى أصوات السعال بين الفينة والأخرى، يتسرب الشك إلى ذهني، هل من الممكن أن ينقل شخص واحد العدوى لكل هؤلاء، لكنني وبعد عدة دقائق أنسى الكورونا وأغوص أكثر في عالم الفيلم. الصدفة العجيبة أيضاً أن مكتب وزارة الصحة الألمانية قد أعلن عن حالة الإصابة الأولى بفيروس كورونا صباح يوم 2 مارس، أي بعد ساعات من نهاية العروض الجماهيرية لليوم الأخير للمهرجان، هل اكتشفت برلين الإصابة ولم تعلنها حتى نهاية المهرجان!

كورونا تمثل ذعراً للجميع الآن، أخبار تتساءل عن إمكانية إقامة مهرجان كان في موعده، أخبار أكثر تشككاً تأتي من فينيسيا حيث ازدادت الوفيات في إيطاليا، مهرجان قمرة قد تم إلغاؤه بالفعل في قطر، ومهرجان سالونيك قد تم الغاؤه في اليونان، برلين كان إنجازاً بكل المقاييس إذن، فحضوره أكثر من خمسة أضعاف كل هذه المهرجانات مجتمعة.

الأسد الإيراني

كل الأفعال البشرية مرتبطة بشكل ما بالسياسة بمفهومها الواسع، حرية تنقلك، حقك في وسائل مواصلات جيدة وآمنة، قدرتك على شراء كوب شاي عقب إفطار يكفيك بقية يومك، وبالتأكيد قدرتك على الارتباط بمن تحب، والسير معها أو معه دون أن تخاف عند كل منعطف، كل هذا نحاول نسيانه حينما نعيش في مجتمعات يصبح الكلام فيها عن السياسة ضرباً من الانتحار، تتدهور كل الملفات، ننسى كل ما ذكرناه سابقاً، ونحاول أن نصنع سينما منزوعة الدسم والفكر، ثم نندهش أنها منزوعة الإبداع أيضاً.

في الفيلم الإيراني الفائز بالدب الذهبي There is no Evil، أو «ليس هناك شيطان» إذا ما حاولنا أن نترجمه بشكل أقرب لاسمه الفارسي الأصلي، يصحبنا المخرج الإيراني «محمد رسولاف» في أربع حكايات منفصلة متصلة لبشر موضوعين أمام اختيار صعب، اختيار يعيد تشكيل علاقتهم بالحياة والموت، كما يعيد تشكيل رؤيتنا لعالمهم.

الفيلم في مجمله قد يكون معادياً للتجنيد الإجباري، قد يكون معادياً أيضاً لعقوبة الإعدام، لكنه ورغم كل ذلك لا يقدم شياطين أو أشراراً، الكل بشر، المخطئ لم يظهر في الصورة، المخطئ قد يكون من وضع هذه القوانين، من يرعاها ويصر على تنفيذها، ومن يمنع محمد رسولاف حالياً من السفر، بل ومن حكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة فضفاضة للغاية هي نشر البروباجندا.

رسولاف قد صنع هذه الحكايات الأربع وكأنها أربعة أفلام قصيرة منفصلة، هذه هي الحيلة التي مكنته من صناعة الفيلم وهو ممنوع من العمل، ولكنه ورغم هذا الوضع الاستثنائي، قد نجح في صياغة رؤيته في شريط سينمائي ممتع، تلعب فيه البيئة الإيرانية دور البطولة، من الشوارع والأسواق المزدحمة، إلى براح الريف والبراري.

حينما خرجنا من الفيلم اتهم البعض رسولاف بمغازلة الغرب، في المؤتمر الصحفي سألت شخصياً صناع العمل ومن بينهم «باران رسولاف» ابنة المخرج، كيف يردون على من يتهمهم بنشر بروباجندا معادية لإيران، فرد منتج الفيلم بأنهم يصنعون فيلماً عن الحقيقة، مشاعر حقيقية واختيارات حقيقية لبشر حقيقيين، ولذلك على من يتهمهم بالبروباجندا أن يعيد التفكير في ما يريد أن يراه.

انتهى الحلم البرليني إذن، بضحكات ودموع السينما الإيرانية التي يمكنها الوصول لكل أرجاء الدنيا، لأنها شديدة الصلة بحكايات شعبها، بمخاوفهم وأحلامهم وشكوكهم أيضاً.

من هنا وطوال 4 رسائل، بالإضافة لحوار خاص مع المخرجة هالة لطفي، وبمشاهدات استمرت عشرة أيام، بين سينمات برلين المختلفة ومركزها الصحفي، نقلنا لكم مهرجان برلين 2020، في الدورة رقم 70 التاريخية، الدورة التي لم تمنعها كورونا، والتي سنتذكرها بالسعال المُخيف،الأسد الإيراني، والحلم الألماني.