إذا كانت الكاميرا هي الرؤية، العين المراقبة، فإن المونتاج هو التفكير، العقل المدرك. ما أريد قوله، إن المعاني والقيم العاطفية لمشهد وما يتركه من انطباعات لدى المشاهد هو ما يجسد دور المونتاج الخلاق في صناعة الفيلم.
المخرجة الأمريكية «مايا ديرين»

المونتاج في أبسط معانيه هو الربط بين لقطتين مختلفتين من الفيلم، وبمعنى أوسع هو كيفية ترتيب اللقطات وبناء الفيلم بالطريقة التي يعرض بها على المشاهد.

بالإضافة للجوائز الأكثر بريقًا التي تمنحها أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة مثل أفضل فيلم، أفضل مخرج أو جوائز التمثيل، هناك جوائز أخرى تقنية تكاد تنفرد بها الأكاديمية أهمها التصوير السينمائي والمونتاج. تمثل هذه الجوائز التقنية تقديرًا مستحقًا وردًا لاعتبار هذه الفئات المبدعة والتي تتعامل معها المهرجانات الفنية الكبرى كامتداد لمهنة المخرج ومنجزه، مكتفية بمنح الأفلام المكرمة فقط جائزة الإخراج.

فيما تبقى من مساحة المقال نحاول تقديم قراءة للمنجز المونتاجي للأفلام الخمسة المرشحة لجائزة الأوسكار أفضل مونتاج في 2019.


Bohemian Rhapsody

ربما يعزز فوزه بجائزة «جمعية المونتيرين للسينما الأمريكية» كأفضل مونتاج لفيلم درامي من فرصه لاقتناص جائزة الأوسكار لنفس الفئة. اختيار جون أوتمان بخلفيته كمؤلف موسيقي للقيام بأعمال المونتاج، كان الخيار الأنسب لفيلم عن فرقة الروك البريطانية «كوين» ومغنيها فريدي ميركوري، عمل يعتمد على الأداء الصوتي بقدر ما يعتمد على الجانب البصري. التحدي المونتاجي لدى أوتمان كان يتمثل في تحقيق توازن بين صعود نجم الفرقة ومحطاتها الغنائية الأبرز وبين الحياة الشخصية لفريدي، وهو ما حققه إلى حد بعيد.

اقرأ أيضا: رامي مالك: من بيع الفلافل إلى سلم المجد

يعتمد الفيلم كثيرًا في تأثيره على إعادة أداء أبرز أغاني الفرقة، وهو ما كان سيشكل عبئًا ثقيلًا على إيقاع الفيلم إذا تمت بمنأى عن تطور السرد الفيلمي، لكن أوتمان وعبر المونتاج المتوازي كان يربط كل أغنية بحكاية ما تكشف عن جديد في شخصية ميركري أو تدفع السرد للأمام. على سبيل المثال، تتوازى الجولة الأولى في أمريكا حيث غنوا أغنية «fat bottomed girl»، مع اكتشاف فريدي لميوله الجنسية المثلية لأول مرة. كذلك جاء اعترافه بمثليته هذه لزوجته وانفصالهما بالتوازي مع أغنية «love of my life».

أما ذروة أداء أوتمان المونتاجي، فتأتي مع تتابعات النهاية وصولًا لحفلة «live aid» التي تستمر لمدة 13 دقيقة على الشاشة. السؤال هنا لماذا تتم إعادة إحياء هذا الأداء بهذا الامتداد الزمني؟ والإجابة تكمن في الحمولة النفسية للمشهد والأثر المرتجي منه. في تتابعات ما قبل الحفل يعرف فريدي إصابته بالإيدز، كذلك اعترافه بمثليته ومحاولته وصل علاقته بعائلته خاصة الأب، كل هذا يمنح أداءه في هذا الحفل إحساسًا بأنه ربما يكون أداؤه الأخير أو أغنية البجعة الخاص به. كان ينبغي أيضًا هذا الاستغراق الزمني ليعطي هذا الأثر التطهيري الذي يليق كختام لحياة معذبة.


Blackkklansman

هذه هي المرة الأولى التي يرشح فيها باري ألكسندر براون في فئة المونتاج عن عمل يبدو ثمرة تعاون استمر لما يقرب من ثلاثين عامًا مع المخرج سبايك لي، والذي تميزت أفلامه دائمًا بأنها ذات زخم كبير وإيقاع شديد الحيوية.

يبرز إنجاز براون المونتاجي عبر مشاهد الخطب المطولة والتي تتواتر في فيلم مداره العنصرية المتفشية في المجتمع الأمريكي. في مشهد خطاب كوامي توريه أمام مجموعة من نشطاء الحقوق المدنية والذي يستمر تقريبًا لمدة 10 دقائق، ومن أجل الحفاظ على انتباه المشاهد يلجأ إلى تصوير وجوه بعض الحاضرين بأسلوب البورتريه وتركيبها مونتاجيًا معًا بحيث تبدو كما لو كانت تطفو في فراغ الكادر، مما يعطي المشهد لمسة جمالية خاصة لافتًا انتباه المشاهد لهذه التكوينات، بالإضافة لكونها تخدم معنى المشهد فنحن أمام هويات منفردة وليس مجرد حشد من البشر.

اقرأ أيضا: المونتاج السينمائي: عصا المخرج السحرية

المشهد الأكثر تأثيرًا والذي ينفذ مباشرة إلى معنى الفيلم، يتم تحقيق هذا التأثير عبر المونتاج. حيث يجلس أحد نشطاء الحقوق المدنية الكبار ليحكي حكاية جيسي واشنطن المروعة حيث تم التنكيل به وإعدامه دون محاكمة في وﻻية تكساس عام 1916. يتقاطع ذلك مونتاجيًا مع طقوس الاحتفال بانضمام الضابط المتخفي فيليب زميرمان إلى جماعة «كو كلاكس كلان» التي تنضح بالعنصرية ذاتها ثم مشاهدتهم فيلم «مولد أمة» للمخرج الأمريكي الرائد ديفيد وارك جريفيث، والذي كان سببًا مباشرًا في واقعة جيسي واشنطن.

هنا وعبر المونتاج يصير الحدثان حدثًا واحدًا، ما حدث عام 1916 وما يحدث في سبعينيات القرن الماضي. نحن أمام زمن واحد ممتد من العنصرية التي لا تنتهي.


Vice

عمل هانك كوروين مونتيرًا مع العديد من المخرجين الكبار مثل تيرانس ماليك، وأوليفر ستون وغيرهما. في تجربته الثانية مع المخرج آدم مكاي بعد فيلم «The Big Short»، نحن تقريبًا أمام نفس الأسلوب المونتاجي الدينامي، شديد الحيوية (لقطات قصيرة، وقطعات سريعة).

التحدي الواضح في الفيلمين يكمن في موضوع الفيلمين، فمواضيع كاللأزمة الاقتصادية أو سياسات الغرف المغلقة تبدو بعيدة جدًا عما يجذب المشاهد، لكن كوروين بمونتاجه الجذاب والساخر يخلق منها أكبر إثارة ممكنة.

هنا في فيلم «Vice» نحن أمام تحد آخر هو شخصية ديك تشيني غير المثيرة عبر 50 عامًا من حياتها. يستطيع كوروين وعبر تتابعات البداية التي تتوالى فيها لقطات تشيني كعامل سكير، مع لقطات أخرى له كنائب للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أثناء أحداث 11 سبتمبر والتي يستغلها لتوطيد سلطته واتخاذ قرارات شديدة الراديكالية، أن يصنع مدخلًا شديد الإثارة لهذه الشخصية.

مع اعتماد هذا الإيقاع المشدود كأسلوب مونتاجي للفيلم، فإنه يختار ببراعة شديدة اللحظات التي يتراخى فيها هذا الإيقاع مثل المشهد الذي يتلقى فيه تشيني مكالمة هاتفية من الحملة الانتخابية لبوش الابن من أجل إدارة هذه الحملة. تشيني خلال هذه الفترة كان يعيش في الظل وكأن حياته قد انتهت، ثم تأتي هذه المكالمة التي تغير مصيره ومصير أمريكا. هنا لحظة تحول تاريخية ينبغي أن يتباطأ كل شيء من أجل تأطيرها. في مشهد مدته الزمنية دقيقتان نحن أمام أربع قطعات مونتاجية فقط وتقريبًا حركة كاميرا معدومة. هذا ما يجعل من فيلم «Vice» واحدًا من أفضل الأداءات المونتاجية لهذا العام.


Green Book

الفيلم مستوحى من قصة حقيقية مبنية بالطريقة الأكثر كلاسيكية. مونتاج باتريك دون فيتو أيضًا كلاسيكي وبلا أي أسلبة. قطعات ناعمة وشديدة الانسيابية بحيث لا تشتت انتباه المشاهد أو تعوق استغراقه في الحكاية.

اقرأ أيضا: فيلم «Green Book»: دليلك الحي لزمن الفصل العنصري

اللمسة الأهم هي في تحقيق التوازن بين الدراما والكوميديا. الكوميديا هنا تلقائية جدًا، داخلية لا يمكن فصلها أبدًا عن الدراما. في أحد الحوارات مع مونتير الفيلم يشير إلى فهمه لطبيعة الكوميديا، حيث يقول: «الكوميديا بالنسبة لي مثل معادلة رياضية». أعتقد أن فهمه هذا لطبيعة الكوميديا هي التي أدت لتحقيق هذا التوازن المحسوب بين الدراما والكوميديا داخل العمل والنتيجة واحد من أكثر الأفلام إمتاعًا لهذا العام.


The Favourite

نحن هنا أمام منجز مونتاجي مميز جدًا من اليوناني يورجوس مافروبساريديس، المونتير الدائم لسينما يورجوس لانثيموس. يلجأ مع فيلم ينتمي للدراما والتاريخ، إلى تقسيم العمل إلى فصول مع اللجوء إلى قطعات تقليدية مثل المزج (dissolve)، مما يعطي للعمل ككل طابعًا كلاسيكيًا ملائمًا للفترة التي تدور بها الأحداث.

من أفضل اللمسات المونتاجية هنا هو استخدام المونتاج للتعبير عن روابط شعورية بين الشخصيات، فمثلًا في بداية الفيلم نجد ابيجيل الخادمة تصرخ من احتراق يديها بسائل التنظيف ثم يتم القطع إلى الملكة وهي تصرخ أيضًا من جراء مرضها، هذا الوصل المونتاجي يربط الشخصيتين معًا عبر الألم وهو ما يتجلى فيما بعد عبر تاريخهما النفسي ومصيرهما.

اقرأ أيضًا: فيلم «The Favourite»: الكل مهزوم في حرب لانثيموس

المونتاج هنا أيضًا يساهم في خلق معنى الفيلم عبر تتابعات النهاية، حيث يستخدم المزج المونتاجي للجمع بين وجهي أبيجيل والملكة، يجمعهما أيضًا معًا في النهاية عبر مشاعر الألم وإدراك الهزيمة، ثم عبر مزج مونتاجي جديد يبدأ الوجهان في التلاشي لتملأ الشاشة أرانب الملكة. المعنى النهائي الذي يصنعة هذا المونتاج المركب هو معنى عبثي، فكل المشهد الإنساني الصاخب بحروبه وصراعاته يؤول إلى هذه الكائنات الأليفة والمدجنة في النهاية.