كما رأينا (الجزء الأول، الجزء الثاني)، ماركسية محسن هنا مضللة، لأنها لا تستخدم كأداة لتحليل المجتمع الطبقي في الصين ولا كمجموعة من الأفكار السياسية لصالح العمال والطبقات الشعبية، إلخ (وهو جوهر الماركسية من الأساس). فالماركسية في أيدي محسن أداة دعاية محافظة، من أجل نظام اجتماعي شديد الطبقية. ومقال محسن مليء بالحجج المحافظة باسم الماركسية، وقد رأينا بعضها ورددنا عليها. ولكن هناك البعض الآخر التي لم نرها حتى الآن ولا بد من الرد عليها.

مثلًا، هناك فقرة كاملة يتكلم فيها محسن ويمدح في النظام الضريبي الصيني، وسوف نقتبس جزءًا منها: «أجبرت الحكومة علي بابا وتينسنت وغيرهما على مشاركة الـ«داتا» التي تملكها وبيعها لكلّ من يريد الوصول إليها. فوق ذلك، سيدفع الأثرياء والشركات ضرائب أكبر على أرباحهم، وتلوي الحكومة ذراعهم للتبرّع بجزءٍ من ثرواتهم للأعمال الخيرية (يسمّونه «التوزيع الثالث»، بمعنى أن التوزيع الأساسي للدخل يحصل في السوق، و«التوزيع الثاني» هو عبر الضرائب وسياسات الحكومة، فيما «التوزيع الثالث» هو إعادة توزيع الدخل عبر التبرعات والأعمال الخيرية)».

ولكن في رأينا، مدح النظام الصيني لأنه يتدخل في الاقتصاد عن طريق الضرائب (أو بأي شكل من الأشكال) هو مجرد محض بروباجندنا. لقد قلنا من قبل إن تدخل الدولة في الاقتصاد لا يعني في ذاته أننا في نظام اشتراكي أو يسير نحو الاشتراكية. فالدول الرأسمالية تدخلت كثيرًا من أجل تنظيم الاقتصاد الرأسمالي، سواء في حالة أزمة أم لا. وقد تكلم في هذا الموضوع إنجلز وكارل بولانيي في أزمنة مختلفة كما رأينا (وأعتقد أن محسن لا يستطيع اتهامهم بالليبرالية أو بخدمة الإمبريالية الغربية).

أيضًا، على جانب الرد النظري لمفكرين مثل إنجلز أو بولاني، هناك أمثلة تاريخية عديدة. فمثلًا، تدخلت الدولة الأمريكية في اقتصادها من أجل إنقاذ رأسماليتها بعد أزمة 1929-1930، حيث صُدر القانون المسمى Revenue Act of 1935، وهو قانون ضريبي تصاعدي كان يستحوذ على نحو 75% من أعلى الدخول. هل هذا يعني أن إدارة روزفلت في هذا الوقت كانت «اشتراكية»؟ ولا يمكننا نسيان تدخلات الدول الرأسمالية من أجل إنقاذ الاقتصاد في أزمة 2007-2008 وضخ مليارات من اليوروهات والدولارات من أجل إنقاذ البنوك والشركات.

أيضًا على مستوى آخر، تدعي المفوضية الأوروبية مثلًا أنها تحارب الاحتكارات داخل الاتحاد الأوروبي (على الأقل على الورق)، لدرجة أن هناك اتهامات عديدة ضد المفوضية بأنها تحارب تكوين تكتلات صناعية أوروبية قوية قادرة على منافسة الشركات الصينية والأمريكية. وقبل ذلك، صدر قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار في أمريكا في عام 1890. وبغض النظر عن تحجيم الاحتكارات من عدمها من قبل الرأسماليات الغربية، القصد هنا هو –كما قلنا– إن تدخل الدولة لا يعني دعم أي شكل من أشكال الاشتراكية بطريقة أوتوماتيكية، بل يعني في الغالب تنظيم الرأسمالية أو إعادة تنظيمها من جديد.

آخر مثال تاريخي هو نظام دولة الرفاهة التي تكونت في الرأسماليات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. هل تكوين دولة الرفاهة في فرنسا مثلًا تعني أي نوع من أنواع القطيعة مع الرأسمالية؟ (مع كل النقط الإيجابية الممكنة لدولة الرفاهة في إطار نظام رأسمالي).

إذًا، تدخل الدولة الصينية في نظامها الرأسمالي ليس دليلًا على «اشتراكيتها». فليس هناك رأسمالية بل رأسماليات مختلفة تم تكوينها عن طريق عمليات تاريخية، سياسية، واجتماعية واقتصادية مختلفة شديدة التعقيد والتركيب. تسمية أي عملية تدخل الدولة في الاقتصاد «اشتراكية» ووضعها كنظام مضاد لما يسمى «الرأسمالية دون عوائق ودون تدخل الدولة» تبسيط لا يؤدي إلا إلى الخلط في الأمور.

حجة أخرى يطرحها محسن في مقاله، في الفقرة التي تسمى «أن تنظم شعبًا»، هي أن النظام الصيني ينتشل الفقراء الصينيين من وضعهم الاجتماعي البائس. ولكن كما رأينا في مقالنا، البؤس والفقر وعدم الاستقرار الوظيفي تفاقموا والحماية الاجتماعية في الصين تآكلت منذ انفتاح النظام الصيني للرأسمالية العالمية في عام 1978. وحتى لو تم ذلك حقيقة –ووافقنا على أن كل هذا ليس محض الدعاية السياسية– فهو لم يؤثر جذريًا في النظام الطبقي وفي التفاوتات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الرهيبة التي رصدنها. لقد دخلت الصين في تحولات طبقية جذرية لن تتغير بمحض الأمنيات الطيبة الميتافيزيقية لمحسن، وسوف تغير –في أحسن الأحوال– القشور. فهذا الوضع هو وضع قريب جدًا من المثل الفرنسي الذي يقول: «يخرج من الباب حتى يرجع من النافذة».

ثانيًا، يتكلم محسن عن النظام الصيني «الاشتراكي» في هذا الفقرة بحجج لا تفرق كثيرًا عن المدافعين عن الرأسمالية (في الغرب أو في أي جزء من العالم). ففي الواقع، إحدى الحجج المفضلة عند أنصار الرأسمالية هي القول إن الرأسمالية أخرجت البشرية من الفقر. يمكننا حتى أن نرى في هذا الفيديو مثلًا جي سورمان (أحد وجوه النيوليبرالية في فرنسا) يدعي أن فضيلة الرأسمالية هي «تكوين طبقة وسطى واسعة» (أي اغتناء كثير من الفقراء). وبغض النظر عن الحجة، فهذا قريب جدًا مما يقوله محسن في فقرته، فما يصفه ليس حب النظام الصيني في «العدالة» أو الأعمال الخيرية بل محاولة لتوسيع السوق الداخلي الصيني وتحجيم الصراع الطبقي في البلاد لأن الصراع الطبقي هناك كما رأينا ليس هادئًا كما يريد محسن أن يقنعنا.

والنظام الصيني يقظ وواعٍ بهذا، كما يمكننا أن نرى في كتاب برونو أستاريان «الصراع الطبقي في صين ما بعد الإصلاحات» الذي أشرنا إليه من قبل. لذلك، لا يستخدم النظام الصيني العنف ضد الطبقات العاملة والشعبية طوال الوقت، بل يستخدم في مرات عديدة أيضًا المفاوضات والتنازلات. فانتشال بعض الفقراء في الصين –إذا وافقنا على أن هذا صحيح– هو من الاستراتيجيات الاجتماعية العديدة لدى النظام الصيني من أجل التحكم في زمام الأمور (مع تذكير القارئ بأن -كما قلنا عدة مرات- يقع ملايين من الصينيين الآخرين في نفس الوقت في براثن الفقر أو انعدام الأمن الوظيفي بسبب الانفتاح على السوق العالمية).

يمكننا قول ما هو أبعد من ذلك –وربما هذا صادم لبعض القراء- إنه حتى السياسات التي تبدو لصالح الطبقات الأكثر فقراً لا تعني تلقائيًا وبالضرورة أنها سياسيات اشتراكية/يسارية. فيمكننا أن نذكر القارئ بأن النظام النازي – المعروف برجعيته وقمعه الشرس لليسار والشيوعيين – نفذ سياسة تسمى Kraft durch Freude (أي «القوة عبر السعادة») التي كانت تقدم بسعر منخفض عديدًا من الأنشطة الرياضية والثقافية للسكان وللجماهير، التي كانت محفوظة سابقًا للنخبة.

حجة أخيرة يستخدمها محسن في مقاله –ونجدها عدة مرات في المقال– هو مدحه في النظام الصيني لتأسيسه بنية تحتية قوية. فمثلًا يقول محسن: «الدولة [الصينية] ووزاراتها المختلفة دخلت في العملية، وبنت عشرات آلاف الكيلومترات من الطرق الريفية والمدارس والخدمات الصحية. الجيش [الصيني] انهمك في بناء طرق وجسور تصل المناطق النائية ومشاريع ريّ وما شابه. والقطاع الخاص تم أيضاً تحشيده للمهمة: حين تُطلق الحكومة في الصين حملةً وطنية من هذا النوع وتعلن أهدافها وتدعو للمبادرة».

بالتأكيد، لا يوجد شخص عاقل ضد تكوين بنية تحتية قوية، خصوصًا في بلد كبيرة وواسعة مثل الصين. لكن ما نقوله فقط أن ما يحدث من توسيع في البنية التحتية الصينية -في إطار توسع الرأسمالية الصينية كما رأينا– هدفه الأولي هو تسريع تراكم رأس المال وتسريع دورة رأس المال، فما الرأسمالية من دون بنية تحتية؟ لا شيء. لذلك، لا نفهم لماذا كاتب يدعي بأنه «ماركسي-لينيني» سعيد بهذا التراكم الرأسمالي؟

ويستكمل محسن مدحه بعد ذلك ببعض الفقرات: «هناك عامل إنساني هنا لا يمكن الخروج عنه: مع من نتماهى؟ اقرأ في دراسة عن موضوعٍ مختلف عن حالة امرأة تعمل، كالكثيرين، في بيجينغ وتسكن مع عائلتها في هيبي المجاورة. في البداية، كانت تستيقظ يومياً في الرابعة ونصف صباحاً بسبب الازدحام في الطريق إلى العاصمة، وتحصل عند عودتها على ساعةٍ مع أولادها في المساء قبل أن يناموا. حوالي عام 2010، أصبح هناك القطار السريع الذي غيّر حياتها وجعلها أكثر راحة، تنطلق إلى العمل في الساعة السابعة وتكون في المنزل بعد الخامسة بقليل».

نرى بوضوح هنا ذروة الادعاء السياسي، حيث إن عامر محسن – «الماركسي اللينيني»، يمدح بشدة في الصين ما يدعي كرهه في الرأسماليات الغربية: تسريع دورة رأس المال. فهذا بالتحديد ما حدث ويحدث في الغرب: تسريع دورة رأس المال عن طريق توسيع وتقوية البنية التحتية. نحن لسنا مع أو ضد أي شيء هنا، ولكن ما لا نفهمه فرح وسعادة محسن بشيء من هذا القبيل.

إذا قررنا أن نحلل ما يصفه محسن بجمل ومفردات ماركسية (بما إن الكاتب يدعي أنه قريب من هذه الأيديولوجية)، سوف نرى أنها عاملة/موظفة تبيع قوة عملها (تستغل) وتذهب إلى العمل في السابعة صباحًا بدلًا من الاستيقاظ في الرابعة ونصف صباحًا. لقد كسبت ساعة أو ساعتين من النوم على الأكثر. ففي عيون ماركسي لا يوجد أي شيء مدهش أو «ثوري» أو يدعو إلى السعادة. فهذا يحدث في جميع البلاد الرأسمالية المتقدمة. فبنفس هذا الفكر، لا بد أن يرقص من السعادة كل النشطاء المعارضين لعقوبة الإعدام إذا تم تبديل الإعدام بالكهرباء أو بالشنق بالإعدام بالسم على أساس أنها عملية أكثر انسانية!

أي فرد مهتم بالسياسة له هواجس سياسية (بالطبع، ليس بمعنى سيئ)، ويمكن أن تكون هذه الهواجس السياسية عن وعي أو لا. فمن خلال هواجسه، يتم التعبير عن المشروع السياسي للفرد ورؤيته للعالم.

هكذا، يمكن يكون هاجس الشيوعي هو الرأسمالية والصراع الطبقي. ويمكن لليمين المتطرف الأوروبي على سبيل المثال، أن يكون هاجسه تدهور/انحطاط بلده ومجتمعه (مثل إيريك زامور في فرنسا إلى حد ما).

بالنسبة لمحسن ومعسكره (محور المقاومة)، الهاجس الأساسي هو «الاستقلال الوطني» والهيمنة الغربية على المنطقة التي يوجد فيها محور المقاومة. لذلك طول الوقت يمكننا أن نقرأ هجوم (المفهوم) محسن وأعوانه على أمريكا والغرب عمومًا. لذلك أيضًا يمجد محسن في الصين. ليس لأنها «شيوعية» أو «ضد الرأسمالية» أو أنها «تسير نحو الاشتراكية» (حتى المفكر القريب من الماوية سمير أمين، صرّح في كتابه «في نقد الخطاب العربي الراهن» بأن الصين تسير نحو الرأسمالية)، ولكن لأنها بدأت تنافس حقيقةً الولايات المتحدة في مجالات عديدة.

من الواضح أن أحد مبادئ محسن في السياسة هي أن «عدو عدوي صديقي». لقد نقدنا هذه الفكرة قبل ذلك. بالطبع، من حق محسن أن يرى عكس ذلك، ومن حقه أيضًا أن يكون هاجسه السياسي هو «الاستقلال الوطني» وكراهية/نقد/محاربة الهيمنة الغربية والأمريكية. لكن نعتقد أن من حقنا الرد أيضًا عندما نرى –في رأينا المتواضع– شخص يخلط الأفكار السياسية عن عمد لأغراض دعائية تخص معسكره السياسي.

من المنطقي أن يكون لدينا رؤية نقدية عندما يهاجم الإعلام الغربي والأمريكي الصين (أو روسيا، إلخ)، لأنها في الغالب مجرد دعاية وبروباجندا. ولكن لن نترك رؤيتنا النقدية في الوضع العكسي لإرضاء محسن ومعسكره. فما فعله محسن في مقاله هي دعاية سياسية مغطاة بماركسية/ ماركسية-لينينية غريبة الشكل أزيل عنصرها التحليلي القوي والثوري من أجل خدمة مشروعه وهاجسه السياسي الخاص.

يقال إن أول ضحية في الحرب هي الحقيقة، وقد أثبت محسن –بممارساته الدعائية– تلك الجملة مرة أخرى.