لا يزال الأدب قادرًا على المواجهة والتحدي، رغم ما يعصف بالعالم من أحداث سياسية، ورغم ما تمر به كل الدول العربية من أحداث وصراعات، يبقى الكاتب والأديب أكثر قدرةً من السياسي، بالتأكيد، والمؤرخ بل حتى عالم الاجتماع، على استنباط خفايا المجتمع وقراءة أحداثه بطريقةٍ مغايرة، وتقديم رؤية متكاملة للعالم من خلال كتابته، على اختلاف أنواعها وتوجهاتها، ويبقى القارئ كذلك قادرًا على متابعة ومواكبة ذلك الإبداع المتدفق ومراقبته بكل شغف واهتمام.

ولا تزال الرواية أيضًا في العالم العربي كله تحتل الصدارة في الاهتمام والقراءة، وبالتالي الكتابة أيضًا، ولايزال الروائيون قادرين على اللعب عبر خيالهم الثري واستخداماتهم المختلفة للوسائل والتقنيات التي تمنحها كتابة الرواية على تلبية حاجة القراء على اختلاف أنواعهم وتوجهاتهم ورغباتهم، لذا لم يعد غريبًا أن تختلف الروايات وتتنوّع، ولكنها تبقى في النهاية الفن الأدبي الأوّل والأكثر مبيعًا في كثيرٍ من مكتبات العالم العربي.

في هذا العام حاولنا أن نرصد عددًا من توجهات الروائيين العرب بشكلٍ عام، واستطعنا أن نصل إلى أن الروايات المنشورة مؤخرًا يمكن تقسيمها وفقًا لطريقة كتابتها وطبيعة مضمونها إلى أنواعٍ خمسة.


الرواية السياسية

بدأ العام برواية يمكن اعتبارها رواية من العيار الثقيل، وهي رواية «كل هذا الهراء» لصاحبها «عز الدين شكري» التي عاد بها إلى الساحة الأدبية ليشرّح المجتمع المصري قبيل وأثناء وبعد الثورة المصرية 2011، وربما عدت هذه الرواية بشكلٍ خاص أحد أهم روايات هذا العام، ليس لكونها تحكي عن الثورة فحسب، بل لكونها في الأساس تفضح وتكشف سوءات المجتمع بوضوح، وكيف أن كل ادعاءات الحريّة والرغبة في العدل والمساواة ليست إلا عبارات يتشدق بها حتى الثوريين أنفسهم، ولكنهم حين يوضعون في اختبارٍ حقيقيٍ لمبادئهم وقيمهم يجدون أنفسهم لا يختلفون كثيرًا عن جلاديهم ورؤسائهم، لذا فلي3س غريبًا أن يأتي ذكر هذه الرواية بعددٍ من مقاطعها في أزماتٍ مجتمعيّة وسياسية كثيرة يمر بها المجتمع المصري بل العربي بشكل عام.

ولا شك أن حضور المشهد السوري في الرواية العربيّة كان فارقًا ومؤلمًا، ذلك أن الأمر تجاوز حد وصف الثورة والرغبات في التحرير والبحث عن الهويّة، إلى مواجهة الحرب، ومحاولة رصد الخراب، ذلك ما أجادته الروائية السورية «مها حسن» وبرعت فيه وعبّرت عنه في روايتها التي تحكي الألم بصدقٍ وشفافية وتحاول أن تمزج فيها بين السرد الروائي والوثيقة، رواية «عمتِ صباحًا أيتها الحرب» التي استطاعت فيها أن تعبّر عن المأساة الإنسانية بشكل عام، وكيف انقلبت الآية والحال في الواقع السوري من المناداة بالحريّة والعدل إلى القتل والخراب الذي يعاني منه أبناء الشعب كلهم!

كما حضرت المأساة الكردية التي تتجدد سنويًا وتتخذ مسارات مختلفة كل عام، أطلّت علينا رواية «عشبة ضارة في الفردوس» «لهيثم حسين» التي تعكس لنا واقع الحال والمجتمع الكردي الذي ربما لا نعرف عنه الكثير، ويعرض من خلال روايته ورصده لحال أسرةٍ كرديّة مأساة ذلك الشعب المجهولة المنسيّة المتقلبة بين نيران الأنظمة الشمولية وبواقي الثورات التي يختطفها من يتشدقون بالدين والإسلام ليصلوا إلى السلطة ويحصدوا أرواح الأبرياء!

وإذا كانت تلك المآسي والمصائب العربية من حروبٍ وتشريدٍ وقتل قد غدت من المواد الدائمة في نشرات الأخبار، فإن «بثينة العيسى» تنقلنا إلى واقعٍ آخر لا يقل سوادًا عمّا شهده الكثير من الدول العربية في الفترات الأخيرة، تحكي عن «الكويت» ومحاولات التغيير المجهضة فيها وتطرح في روايتها الصادرة مؤخرًا «كل الأشياء» عددًا من الأسئلة التي تتعلّق بالهوية والغربة والألم، ألم ضياع الحب وضياع الوطن وضياع الشعور بالأمان!

ولا ينتهي العام حتى يطل علينا الكاتب الصحفي «أحمد سمير» بروايته الأولى «قريبًا من البهجة» التي يستعيد فيها الثورة المصرية وأحداثها وما سبقها من محاولات وما لحقها من إخفاقاتٍ وآلام، فيعرض لشريحة كبيرة من فئات المجتمع المختلفة وكيف تعاملوا مع أحداث الثورة، وكيف انتهى بهم الحال إلى الشعور بالهزيمة واليأس بعدها!


الرواية التجريبية والخياليّة

طائفة أخرى من الروائيين جنحت إلى مساحات أخرى من الكتابة، مساحات أكثر رحابة، واستطاعوا أن يقدموا من خلالها عالمهم بشكلٍ شديد الخصوصية والفرادة، ذلك هو عالم الخيال.

يحملنا «أحمد الفخراني» عبر أجنحة الخيال المحلّقة التي تنشد عالمًا افتراضيًا بالكامل، من خلال روايته «سيرة سيد الباشا» الصادرة مطلع هذا العام أيضًا، وهو إن كان يحاكي الواقع ببعض المسميات والأفكار إلا أنه ينجح في خلق عالمٍ موازٍ مختلفٍ ومغاير، مع استغلالٍ فريد من نوعه لألعاب التكنولوجيا التي غدت لغة العصر وحديث الكثير من الشباب والمراهقين، ولكنه ينقلها نقلةً نوعيّة غير مسبوقة، بل يتبعها ـ لحسن الحظ ـ برواية أخرى آخر العام هي رواية «عائلة جادو» التي يواصل فيها هذا التحليق والتجريب الخيالي معًا، ويسعى لتكوين عالمٍ خاص به بطريقة شديدة الخصوصية والفرادة.

رواية أخرى صدرت للروائية والمسرحيّة «نورا أمين» اعتمدت فيها تجريب طريقة جديدة في الكتابة من خلال الرسائل التي تتضافر مع بعضها لتكشف عالم الرواية، واستطاعت من خلالها أن تنسج روايةً مختلفة، تطرح فيها عددًا من أسئلة الكتابة والوجود بشكلٍ فني متماسك، وذلك في روايتها «ساركوفاج» ومن الكويت أطلّت علينا رواية الروائي «سعود السنعوسي» الجديدة «حمام الدار .. أحجية ابن أزرق» والتي بناها أيضًا بطريقة تجريبيّة جديدة ومختلفة كليًا عمّا سبقها من روايات، بل استطاع من خلال تلك التقنية أن يورّط القارئ معه في محاولة استعادة اكتشاف النص والبحث عن حلولٍ لما نثره فيه من ألغازٍ لا يمكن فهمها إلا باستعادة قراءة النص/الرواية أكثر من مرة، وهو في روايته يناقش أيضًا عددًا من القضايا التي تتعلّق بالوجود والعدم، والغياب والحضور، كما يناقش بشكلٍ ذكي مسألة الخلق والكتابة وعلاقة الكاتب بأبطال روايته وأيهم يكون له الفضل على الآخر!


الرواية التاريخيّة

لجأت مجموعة أخرى من الروائيين للعودة إلى التاريخ سواء القريب أو البعيد، وإسقاط أفكارهم ورؤاهم الواقعية على حالة خاصة أو أكثر من حالة متبانية، وبشكلٍ فني، وجدنا ذلك في رواية «حصن التراب» عند «أحمد عبد اللطيف» حينما عاد لحكاية مأساة الموريسكيين في الأندلس لا لكي يبكي أطلال من ذهبوا، ولكن لكي يشرح ويحلل صفحات مهمة في هذا التاريخ الإنساني ويوضّح كيف كان القتل على الهويّة دينية أو عرقيّة شائعًا ومتكررًا حتى عصرنا الحالي، وكيف أن التعصب والإرهاب سمة إنسانية لا تتعلق بدينٍ أو مكان!

من جهة أخرى يعود «طلال فيصل» للتاريخ القريب، ويستعيد «سيرة الحب» مع الملحن المصري «بليغ» في روايته بنفس الاسم، تلك الرواية التي انتظرها الكثيرون، وأحبها الكثيرون، واستطاع فيها «طلال» أن يتمثّل حال وحالة الملحن المصري العبقري، وسيرته الاستثنائية وحكايته من البدء حتى الانتهاء، وأن يحكي بالموازاة مع حكايته حكاياتٍ أخرى تتعلق بالحب ومصادفات الحياة وما تفعله فينا.

كما عاد الروائي الكويتي الكبير «إسماعيل فهد إسماعيل» إلى حياة واحدٍ من أهم فناني العرب في رسم الكاريكاتير، وأكثرهم التصاقًا بقضيّة العرب الأولى قضية «فلسطين» وهو الفنان «ناجي العلي» في روايته الجميلة «على عهدة حنظلة» ليستعيد من خلال ليلةٍ وفاته تاريخ حياته وصداقاته كلها، يسرد «إسماعيل فهد» من خلال حكاية «ناجي العلي» مرثية جيلٍ بأكمله، عارضًا كيف كانت صداقاتهم وعلاقاتهم وحياتهم، كما يروي بين ذلك حكاية قضية فلسطين المؤلمة، تلك التي لم تتم فصولها حتى يومنا هذا!

وكان من حسن حظ الروائي «محمد حسن علوان» والقرّاء في نفس الوقت أن حازت روايته المميّزة عن الإمام الأكبر «ابن عربي» «موت صغير» على جائزة البوكر العربية هذا العام 2017، لتحتل مركزًا متقدمًا في القراءات والمبيعات على السواء، لم يكن ذلك بسبب حصوله على الجائزة فحسب بكل تأكيد، بل لكونه استطاع أن يقدّم من خلال سيرة «ابن عربي» رؤية بانورامية للتاريخ العربي والإسلامي وما حدث فيه من مصائب وأزمات ومشكلات، وأن يجعل الإمام المتصوّف الأكبر معادلاً موضوعيًا لحيرة الإنسان العربي في كل زمان ومكان، ومحاولاته الدؤوبة للبحث عن الحرية والأمان.


الرواية الاجتماعية

بين هذا وذاك لم تغب الروايات الاجتماعية الواقعية، التي تصوّر حالات خاصة ورؤى يطرحها الكاتب والروائي في تصوره للعالم، ليس من خلال مواقف أو أحداث سياسية، ولا بالعودة إلى تاريخٍ بعينه، ولكن من خلال حكايات المجتمع اليومية العابرة، وهو إن كان يلجأ فيها أيضًا إلى «تجريب» طرائق مختلفة ومبتكرة في الكتابة والسرد، إلا أن المضمون العام يبقى «اجتماعيًا».

ظهر ذلك في عددٍ من الروايات، لعل أبرزها روايتَي «عادل عصمت» التي كانت واحدة منهما في مطلع العام والثانية في نهايته: «صوت الغراب» التي ناقش فيها بشكلٍ رمزي يحوي قدرًا من «الفانتازيا» تحوّل الفرد المقموع في مجتمع لا يستمع له، ولا يرى أثرًا لوجوده، وكأنها من جهةٍ أخرى تعرض جانبًا من هؤلاء الذين خرجوا ينادون بالعدل والحريّة ولم يحصدوا في النهاية إلا الوصول إلى حالة من اليأس أو الاستسلام!

من جهةٍ أخرى جاءت روايته «حالات ريم» لتعرض جانبًا آخر مغايرًا لهذه الحالة التي تتعاقب عليها التغيرات، وتبقى في حيرة لا تملك قرارًا ولا قدرة، كما يعرض من خلالها مناقشة هادئة للعلاقات العاطفية وأثرها في أنفسنا، وكيف تتغيّر وتتحوّل النفوس الإنسانية متأثرة بالحب، وغير ذلك.

من جهةٍ أخرى جاءت رواية «عمرو العادلي» «اسمي فاطمة» لتعرض حالة أخرى وتحكي قصة فتاةٍ تسعى لحياةٍ هادئةٍ آمنة، ولكن الأقدار لا تمنحها تلك الحياة، ويتدخل مع حياتها الواقعية حياة متخيّلة تفترض وجودها وتعيش في إطارها، ليناقش الكاتب من خلال تلك الحكاية حياة الروائي وكيف يتعامل مع الواقع وكيف يؤثر الخيال على ذلك الواقع بشكلٍ بالغ قد يضيع من أجله حياته!

ومن المنصورة تأتي رواية «داليا أصلان» التي ترصد التاريخ الاجتماعي لتقدّم لنا عالمًا ساحرًا شديد الخصوصية، وتستعرض في روايتها «المختلط» سيرة حياة تلك المدينة المصرية المغرقة في التاريخ، منذ أيام الاحتلال الإنجليزي وحتى العصر الحالي، وذلك من خلال حكايات أهل المدينة البسيطة وعلاقتهم بالغرباء، وتقدّم من خلالها رؤية بانوراميّة للمدينة يندمج فيها عبق التاريخ والأصالة بالذكريات.


روايات المستقبل

لعل أبرز مثال لهذا النوع من الروايات هذا العام، رواية «موسم صيد الغزلان» لأحمد مراد، والتي قوبلت بحفاوةٍ كبيرة من جمهورٍ كبير من القراء، ونالت في الوقت نفسه الكثير من الانتقادات من طرفين متناقضين، بين من يصفه بالترويج للإلحاد وكثرة المشاهد الإباحية في الرواية، وبين من يرونه يعرض لقضايا مهمة بأسلوبٍ سطحيٍ وبشكلٍ فج، وكأنه يجرب تلك الأفكار في الكتابة لمجرد أن يهاجم عليها أو يكون مثارًا للجدل، وهذا ما حصل فعلاً، الرواية تدور في المستقبل وحاول «أحمد مراد» أن يجمع فيها بين الخيال العلمي وبين أفكاره الخاصة المتعلقة بالحب والحياة، فجاءت مزيجًا بين هذا وذاك.

كذلك تأتي رواية «رسائل سبتمبر» للروائي أحمد عبد المنعم رمضان، وهي رواية تدور في المستقبل أيضًا، وتناقش فكرة افتراض وجود رسائل يرسلها «ملك الموت» قبل أن يقبض أرواح الناس، ومن خلالها يعالج الكاتب أفكارًا متعلقة بالحياة والموت بأسلوبٍ روائي متماسك وبقدرةٍ عالية على تمثل الشخصيات والتعبير عنها بأقل قدرٍ ممكن من الكلمات، وقدرة على التعبير عن الفكرة والدوران حولها بشكلٍ احترافي.

وعلى الرغم من انطلاق «شريف صالح» في روايته الأولى «حارس الفيسبوك» من أفكار واقعية، فإن افتراضه المستقبلي بأن حادثًا سيصيب «فيس بوك» ويجعل الناس قادرين على التعرف على أسرارهم، يجعل هذه الرواية الاستثنائية تنتمي إلى هذا النوع من الروايات، في روايته تلك استطاع شريف صالح أن يعبّر عن واقع العالم الافتراضي بشكلٍ جذاب، كما استخدم في الرواية تقنية جديدة ومختلفة، وذلك بأنه بدأ الرواية من نهايتها، وتنتهي الرواية بالأحداث التي جاءت بها البداية!


لا يمكننا بالتأكيد أن نتناول كل الروايات التي صدرت في العالم العربي على اتساعه وتنوعه في موضوعٍ واحد، ولذا تأتي هذه الإضاءات والإشارات إلى عددٍ من الروايات المهمة التي صدرت في مصر بشكل خاص وفي العالم العربي عمومًا، والتي تشير في النهاية بشكلٍ واضح إلى تنوّع الإنتاج الروائي وزخمه، كما توضح من جهة أخرى قدرة الكتّاب والمبدعين المستمرة على تناول الموضوعات بطرائق جديدة وتقديم الجديد للقراء الشغوفين بهذا النوع من الكتابة بشكلٍ خاص.